مقالات كل العرب

أكلت يدها

شارك

أكلت يدها

أ. عيسى قراقع

ابنتي المعاقة أكلت يدها من الجوع، انها صرخة أم في شمال قطاع غزة، ولأول مرة في تاريخ الحروب المأساوية يأكل الناس أنفسهم من الجوع حتى يبقوا أحياء ما استطاعوا الى ذلك سبيلا.
أطفال غزة يستشهدون بسبب الجوع الشديد، دون أن تلامسهم القذائف، يضمحلون ويتآكلون، تتوقف قلوبهم الصغيرة، يموتون بصمت في حضن امهاتهم امام عدسات الكاميرا.
أكلت يدها… انه الجوع المرعب، أقدم سلاح للأبادة، سلاح الدمار الشامل للآلة الصهيونية، سلاح التجويع والتعطيش لقتل الحياة في غزة.
نحن في غزة نأكل أعلاف الحيوانات والاعشاب والاطعمة الفاسدة، الجوع كافر، هو اكثر الاسلحة خسّة في التاريخ، نبحث عن الطعام وسط البيوت المدمرة، ربما نجد معلبات او مجمدات لنأكل اذا ما نجونا من مصائد القناصين والرصاص.
أكلت يدها، ونحن لم نعد نعرف من يأكلنا، الوحش المفترس، الصهيونية الابادية، اميركا الرأسمالية المتوحشة، شركات الاسلحة، خبراء تجويع الجغرافيا والكائنات الحية، غزة اكبر مختبر في التاريخ، هنا كل النظريات الاستئصالية.
أكلت يدها، والكلاب الضالة تأكل جثثنا الملقاة في الشوارع وعلى الارصفة، الجوع يأكلنا، القذائف تأكلنا، غلاء الاسعار يأكلنا، فزع الليالي يأكلنا في الخيام البائسة، الشهداء يموتون جوعى، لا طعام في الارض ولا طعام في السماء، السماء ايضا جائعة.
“عربات جدعون” تتدحرج فوق اجسادنا في غزة، عملية عسكرية تهرس الجثث والمنازل والجوعى والعطشى، وما زالت الاف الشاحنات المكدسة بالاغذية وراء معبر رفح واقفة، لا احد يدفعها، لا أحد يفتح البوابة، لا امة عربية ولا اسلامية، ابو ذر الغفاري ليس هنا، لا المسيح ولا جمال عبد الناصر في المدينة.
أكلت يدها، وانت ايها العابر للحدود والفنادق الفاخرة، ومراكز السياحة في العالم ماذا اكلت؟ وكأني اسمع من يقول: دعهم يجوعون، سيذوبون ويتلاشون ويتقلصون ويهلوسون ويحسبون القنابل أرغفة، دعهم يجوعون، سيتروضون ويستسلمون ويزحفون ويتحولون من مقاتلين الى مستهلكين مشطوبين مذلين بلا كرامة وذاكرة.
ابنتي المعاقة اكلت يدها من الجوع، هل سمعها الشبعانون المجتمعون في مؤتمر القمة؟ لقد صدر بيان ناشف بلا ماء وذخيرة،شكرا، لقد شبعنا كلاما هبط في سلة غذائية فوق رؤوسنا المتناثرة.
غزة مدينة شواء للحم الفلسطيني، تفضلوا تعالوا الى اشهى شعب مذبوح ومطبوخ على الطريقة الامريكية- الاسرائيلية، تعالوا الى اكبر وألذ مائدة بشرية.
تفضلوا، هنا اصبع طفلي طري، هنا جمجمة طازجة، كلوا واشبعوا، برطعوا وانتفخوا، استخدموا اسنانكم وأظافركم وأياديكم، تذوقونا واهضمونا وابلعونا، كروشكم واسعة.
بائع القهوة الصغير كمال مريش 12 عاما، استشهد في مجزرة دموية استهدفت مطعما وسوقا شعبيا في غزة، سقط وهو يحمل الدلة وفنجان القهوة، اختلطت القهوة بالدماء النازفة.
أطفال غزة قتلوا بسبب الجوع الشديد والخوف، قتلوا وهم يركضون فزعين بلا مأوى يحميهم، الجوع هو الخوف.
في غزة لا ينزل الحليب من اثداء الامهات الجائعات، لا رضاعة، سوء تغذية وامراض ونزوح واوبئة، الاطفال لم يعودوا يحلمون بالدراسة واللعب والتلوين، وحش الجوع يطفئ عيونهم، واحلامهم تتلاشى في الفحم.
أكلت يدها، الكاتب زياد خداش لم يعد يرسل الشوكلاتة من رام الله الى غزة للطفلة جمانة ابنة الشهيد الشاعر سليم النفار، غارة دموية نسفت البيت ودفنت العائلة..
الجوع في غزة لم يعد هو الم الغريزة في طبيعة البشر وهو يصارع الجسد، انه يخترق ذواتنا وعقولنا، يدربنا على الموت البطيء، يدربنا على ان نلتهم أنفسنا بصمت.
اكلت يدها، والاسرى في السجون والمعسكرات الاسرائيلية اكلوا انفسهم حكا وجوعا ومرضا، السكابيوس هو مرض الجرب اللعين يمارس الابادة على ابدانهم، يمتص الدم والامعاء الخاوية.
استشهد الأسير خضر عدنان جائعا، اكله السجان والوقت، كان وحيدا في الزنزانة مضربا عن الطعام، شهقة حرية وصلاة في الركعة الاخيرة، ولا يزال جائعا بعد الموت محجوزا في تلك الثلاجة الباردة.
القوات النازية كانت أول من استخدم سلاح التجويع في الحرب العالمية الثانية، وتتماهى الصهيونية الجشعة مع النازية في حرب الإبادة على غزة، وقد استيقظ الجنرال الإسرائيلي يائير غولان أخيرا عندما قال أن إسرائيل في طريقها لأن تصبح دولة مجذومة بين الأمم، النازيون الجدد يقتلون الأطفال كهواية.
أكلت يدها، والطفل عبد الرحمن النبهان (5 سنوات) يصطف على الطابور الطويل أمام إحدى التكايا التي تقدم الطعام في غزة، تدافع وإزدحام وجوعى، سقط داخل قدر الطعام الذي كان يغلي على درجة حرارة عالية، لفظ أنفاسه جائعا، فالجوعى هم أهل الهاوية.
التجويع هو أكبر فضيحة في هذا العالم، جريمة ضد الإنسانية، ثقافة الكابوي الأمريكي الذي يركب حصانة وينهب ثروات الشعوب والذهب، أهلاً بالرئيس الأمريكي ترامب في ديارنا ومدننا المالحة، أهلاً بالنظام الحيواني الذي يأكل لحوم البشر.
أكلت يدها، والجرافات الإسرائيلية تأكل الأرض والشجر، إنها جغرافيا الجوع والمستوطنات، الدولة الفلسطينية الموعودة عضلاتها ضامرة وجائعة، تأكلها المساومات والصفقات والشركات والمصالح عابرة الوطن بجوازات أجنبية.
الطفل المعاق محمد بهار أطلق عليه الجنود الإسرائيليون كلبا مفترسا، أكل لحمه حيا، نزف حتى الموت، رأى الموت المتوحش سكينا ينحره ويقشره حتى جاع الموت.
الجوع يسجننا، الجوع السياسي هو الأخطر، الجوع الذي يستهدف العقل والإرادة، اسألوا الكاتب زكريا تامر لقد جوع النمر المحبوس في القفص، تروض النمر وفقد قوته وعنفوانه، صار مطيعا، أليفا، مطبعا، خانعا يستجيب لأوامر السجن.
ابنتي المعاقة أكلت يدها من الجوع، هذا الجوع الذي قال عنه الشاعر العربي عبد الرازق عبد الواحد رحمه الله، يمشي عاريا بين الجميع ولا يلام، والنفط يملئ ارضنا والناس تبحث عن طعام، يا ويلها الأطماع تخلع جلدها باسم السلام وتمد للحب المخالب كي يبادلها احترام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى