كرة القدم، الانفعال الجمعي، و حدود التضامن الأخلاقي: قراءة في ردود الافعال التونسية تجاه فلسطين بعد المباراة في كأس العرب

كرة القدم، الانفعال الجمعي، وحدود التضامن الأخلاقي: قراءة في ردود الفعل التونسية تجاه فلسطين بعد المباراة في كأس العرب
أ. صراح الدالي
لطالما شكّلت القضية الفلسطينية أحد أكثر القضايا العادلة حضورًا في الوعي الجمعي العربي، وخصوصًا في تونس حيث ارتبط الدعم الشعبي لفلسطين بخطاب وطني وثوري ممتد منذ عقود. غير أنّ الأحداث الرياضية الأخيرة، وبشكل خاص مباراة سوريا وفلسطين وما ترتب عنها من إقصاء المنتخب التونسي، أفرزت ردود فعل مفاجئة لدى بعض التونسيين تمثّلت في الدعوة إلى “تحييد” القضية الفلسطينية عن الموقف الرياضي، بل وذهب بعضهم إلى إعلان التراجع عن المقاطعة أو الدعم الرمزي لفلسطين كردّ فعل انفعالي.
كرة القدم كفضاء للهوية والانفعال الجمعي
1. كرة القدم والهوية الوطنية
تُعد كرة القدم أكثر من مجرّد لعبة؛ فهي فضاء رمزي تتجسّد فيه الهوية الوطنية، والكبرياء الجماعي، والإحساس بالانتماء. فالمنتخب الوطني، في المخيال الشعبي، يتحوّل إلى “تمثيل مكثّف للأمّة”، وأي فوز يُترجم إلى شعور جماعي بالقوة، وأي خسارة قد تُستقبل كإهانة رمزية.
لهذا السبب، لا تُقاس المباريات بمنطق رياضي صرف قائم على الأداء والنتيجة فقط، بل تُحمّل بدلالات سياسية وأخلاقية تتجاوز المستطيل الأخضر، حيث يتم إسقاط أوضاع الدولة والمجتمع على أداء الفريق، وتُقرأ النتائج باعتبارها مؤشّرات على المكانة والعدالة والإنصاف. ويؤدي هذا التداخل بين الرياضي والرمزي إلى تضخيم أثر الخسارة، وجعلها لحظة حسّاسة قابلة لتوليد خطابات احتجاجية أو انفعالية.
2. الانفعال الجمعي وعقليّة “نحن وهم”
وفقًا لعلم النفس الاجتماعي، يتحرّك الجمهور الرياضي في لحظات التنافس ضمن منطق الانفعال الجمعي، حيث تتراجع القدرة الفردية على التفكير النقدي لصالح استجابات عاطفية سريعة يغذّيها الشعور بالانتماء والاصطفاف. في مثل هذه الحالات، يذوب الفرد داخل الجماعة، ويصبح سلوك الجمهور موجّهًا بمنطق العدوى العاطفية، لا بمنطق التحليل العقلاني للمعطيات.
عند حدوث الإقصاء أو الخسارة، يتشكّل وعي ثنائي مبسّط يقوم على تقسيم العالم إلى فئتين متقابلتين: “نحن” التي تشمل المنتخب، الجماهير، والوطن بما يحمله من رمزية، و“هم” التي قد تشمل الفرق المنافسة، التحكيم، الظروف التنظيمية، أو حتى أطرافًا كانت تُعدّ سابقًا حليفة أو محايدة. يمثل هذا التقسيم آلية نفسية دفاعية تهدف إلى حماية صورة الذات الجماعية من الانكسار.
في هذا السياق، تبدأ عملية البحث عن “مسؤول معنوي” للإحباط، وهي عملية تسمح بتفريغ الغضب الجماعي وتمنح الخسارة تفسيرًا أخلاقيًا أو تآمريًا بدل قبولها بوصفها نتيجة رياضية. وغالبًا ما يتم توجيه هذا الغضب نحو أطراف رمزية سهلة الاستهداف، ما يفسّر كيف يمكن أن تتحوّل قضايا إنسانية أو مواقف تضامنية سابقة إلى موضوع إسقاط نفسي مؤقت. وهكذا تصبح الخسارة الرياضية محفّزًا لإعادة ترتيب الولاءات والانفعالات، لا بناءً على مراجعة عقلانية للمبادئ، بل بفعل الضغط العاطفي ورغبة الجماعة في استعادة تماسكها النفسي.
ثانيًا: من التضامن المبدئي إلى القطيعة الانفعالية
1. التضامن المشروط مقابل التضامن القيمي
تكشف ردود الفعل التي دعت إلى “تسييس الرياضة” أو إلى التراجع عن دعم القضية الفلسطينية عن هشاشة ما يمكن تسميته بالتضامن المشروط، وهو نمط من التضامن يقوم أساسًا على الشحنة العاطفية والانسجام الظرفي، لا على قناعة أخلاقية راسخة. فحين يتقاطع هذا التضامن مع شعور إيجابي بالإنجاز أو التفوق، يبدو ثابتًا ومبدئيًا، لكنه سرعان ما يتصدّع عند أول تعارض مع المصلحة الوطنية الآنية أو الإحباط الجماعي الناتج عن الخسارة. في هذه الحالة، لا يتحول التضامن من تعبير عن التزام أخلاقي طويل الأمد، إلى موقف قابل للمساومة وفق ميزان الربح والخسارة الرمزية.
في المقابل، يقوم التضامن القيمي على إدراك أن القضايا العادلة — وعلى رأسها القضية الفلسطينية — لا تُقاس بمنطق النتائج الآنية ولا تُربط بالأداء الرياضي أو السياسي الظرفي، بل تستند إلى مبادئ العدالة، وحقوق الإنسان، ورفض الظلم البنيوي. يتميّز هذا النوع من التضامن بقدرته على الصمود أمام التقلبات الشعورية، لأنه يرتكز على وعي أخلاقي يتجاوز الانفعال اللحظي، ويُميّز بين المشاعر الوطنية المشروعة والالتزام الإنساني الأشمل.
2. آلية الإزاحة النفسية (Psychological Displacement)
من منظور التحليل النفسي، يمكن فهم التحول من التضامن إلى القطيعة عبر آلية الإزاحة النفسية، حيث يُعاد توجيه الغضب والإحباط من مصدره الحقيقي إلى هدف رمزي أقل كلفة نفسية. ففي حالات الإقصاء أو الفشل الرياضي، يصبح من الصعب على الجماهير مواجهة الأسباب البنيوية المرتبطة بسوء التسيير، أو ضعف الأداء، أو الإخفاق المؤسساتي. وبدلًا من ذلك، يجري البحث عن “موضوع بديل” يمكن تحميله مسؤولية الإحباط الجماعي دون الدخول في صراع مع الذات أو مع السلطة الرياضية.
في هذا السياق، تتحوّل القضية الفلسطينية — أو الفريق الفلسطيني، أو الشعارات التضامنية المرتبطة بها — إلى هدف رمزي للإسقاط النفسي، ويغدو “التخلّي عن الدعم” أو السخرية من الشعارات التضامنية شكلًا من أشكال التنفيس الانفعالي، يهدف إلى تفريغ الشعور بالقهر واستعادة الإحساس بالسيطرة، دون أن يرقى إلى مستوى موقف سياسي واعٍ أو مراجعة أخلاقية حقيقية.
وهكذا، لا تعبّر هذه القطيعة عن تبدّل في القناعات بقدر ما تعكس أزمة في إدارة الغضب الجماعي، حيث تُستبدل مساءلة الفشل البنيوي بإعادة ترتيب رمزية الولاءات، فيتحوّل التضامن من موقف مبدئي إلى أداة انفعالية قابلة للسحب تحت الضغط النفسي.
ثالثًا: السياسة، الرياضة، وسوء فهم “الحياد”
1. وهم فصل الرياضة عن السياسة
يرفع البعض شعار “لا للسياسة في الرياضة”، غير أن هذا الطرح يتجاهل أن الرياضة كانت دائمًا ساحة سياسية بامتياز:
• من الأولمبياد
• إلى المقاطعات الدولية
• إلى استخدام المنتخبات كأدوات قوة ناعمة
لم تُفرض القضية الفلسطينية على المشهد الرياضي قسرًا، بل حضرت بفعل إجماع أخلاقي عربي تاريخي.
2. الانتقائية الأخلاقية
تتجلّى الانتقائية الأخلاقية بوضوح في الخطاب الذي يستدعي مبدأ “الحياد” أو “فصل الرياضة عن السياسة” فقط عندما تتعارض قضية عادلة مع مصلحة وطنية آنية، بينما يتم تجاهل هذا المبدأ ذاته عندما تُستخدم الرياضة أداةً للترويج الوطني أو لتعزيز سرديات سياسية داخلية. لا يعكس هذا السلوك تمسكًا حقيقيًا بالحياد بقدر ما يكشف توظيفًا نفعيًا للمبادئ، حيث تُحوَّل القيم الأخلاقية إلى أدوات تبرير ظرفية تُستدعى أو تُهمَّش وفق ميزان الربح والخسارة الجماعية. ومن منظور نفسي–سياسي، يُفسَّر هذا النمط بآليات مثل التحيّز الانتمائي والتبرير المعرفي، إذ يميل الأفراد والجماعات إلى حماية صورتهم الجماعية وتخفيف الإحباط الناتج عن الخسارة عبر إعادة تأطير المواقف الأخلاقية. كما تلعب الإزاحة النفسية دورًا مركزيًا في تحويل الغضب من الإخفاق الرياضي أو البنيوي إلى رفض رمزي لقضية كانت تُعدّ سابقًا موضع إجماع أخلاقي. وبهذا المعنى، لا تعبّر الدعوة إلى “الحياد” عن موقف مبدئي ثابت، بل عن حالة من التقلّب القيمي الناتج عن ضغط الانفعال الجمعي وهيمنة المنطق المصالحي القصير الأمد، وهو ما يؤدي في المحصّلة إلى إضعاف مصداقية الخطاب الأخلاقي العام وتكريس فهم متناقض للعلاقة بين القيم الإنسانية والمصلحة الوطنية.
رابعًا: وسائل التواصل الاجتماعي وتضخيم المواقف الهامشية
تمثل وسائل التواصل الاجتماعي اليوم أحد أهم الفضاءات التي تُعاد فيها صياغة الرأي العام، لا من خلال تمثيل دقيق للأغلبية، بل عبر آليات خوارزمية تقوم على الإثارة والانفعال وسرعة التفاعل. في هذا السياق، تتحوّل الآراء الفردية، مهما كانت هامشية أو آنية، إلى ما يشبه “الموقف الجمعي” بمجرد حصدها معدلات مرتفعة من التفاعل، وهو ما يخلق وهمًا بوجود تحوّل عميق في الوعي العام، بينما لا يتجاوز الأمر في كثير من الحالات ردود فعل انفعالية صادرة عن فئة محدودة زمنيًا وعدديًا.
1. من الرأي الفردي إلى “الترند”: منطق الخوارزميات والانفعال
تعتمد خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي على تعزيز المحتوى الذي يثير أكبر قدر من التفاعل السريع، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا. وبما أن الخطاب الصادم، الاستفزازي، أو المتناقض مع القيم السائدة يثير الغضب والدهشة، فإنه يُكافأ بالانتشار على حساب الخطاب الهادئ والتحليلي. في هذا الإطار، تنتشر الدعوات المتطرفة، مثل إلغاء المقاطعة أو التخلي عن دعم فلسطين، لأنها تكسر التوافق الأخلاقي التقليدي وتخلق صدمة رمزية تستدعي الردّ والمواجهة.
يُعرف هذا النمط من الانتشار في دراسات الإعلام بـ “الرأي العام اللحظي”، وهو رأي هشّ، سريع التغيّر، يتغذّى على الانفعال لا على القناعة. كما تسهم ظاهرة دوائر الصدى (Echo Chambers) في تضخيم هذا الوهم، حيث يتفاعل الأفراد مع محتوى يشبه ميولهم الغاضبة، مما يجعلهم يظنون أن موقفهم يمثل أغلبية صامتة.
2. منطق الاستفزاز الرمزي وبناء الحضور الرقمي
لا يمكن فصل بعض هذه الخطابات عن منطق السعي إلى الظهور الرقمي. فالدعوة إلى موقف صادم أخلاقيًا تمنح صاحبها رأس مال رمزي يتمثل في المشاهدات، المشاركات، والمتابعين، حتى وإن كان الثمن هو تبسيط قضية إنسانية أو تشويهها. بذلك تتحوّل القضايا العادلة من فضاء نقاش أخلاقي إلى مادة للاستهلاك الرقمي، ويُختزل الموقف السياسي في شعار استفزازي قابل للتداول السريع.
3. أزمة الخطاب العقلاني في الفضاء الرقمي
في أجواء الغضب الرقمي، يتراجع التحليل المتزن لصالح الردود القصيرة، الساخرة، أو العدائية. فطبيعة المنصات نفسها تفرض منطق الاختزال، حيث يتم استبدال النقاش المعقّد بثنائيات تبسيطية من قبيل: “معنا أو ضدنا”، “وطني أو خائن”، “سياسة أو رياضة”. هذا الاختزال لا يسمح بفهم العلاقة الجدلية بين القيم والمصالح، ولا يتيح التمييز بين التضامن المبدئي وردّ الفعل الانفعالي.
كما يؤدي هذا المناخ إلى ما يمكن تسميته بـ إرهاق الخطاب العقلاني، حيث يعزف الكثير من الفاعلين الهادئين عن المشاركة خشية الانخراط في صراعات لفظية عدائية، فيُترك المجال للخطاب الأكثر حدّة، فيزداد الانطباع الزائف بأن المواقف المتطرفة هي السائدة.
4. الأثر السياسي والاجتماعي لتضخيم الهامشي
يسهم تضخيم المواقف الهامشية في إرباك صانعي القرار، وتشويه صورة الرأي العام داخليًا وخارجيًا، كما يفتح المجال أمام فاعلين سياسيين أو إعلاميين لتوظيف هذه الأصوات كدليل على “تحوّل مزاجي” لا وجود فعلي له. وعلى المدى البعيد، يضعف ذلك القدرة على بناء موقف جماعي متماسك تجاه القضايا العادلة، ويحوّل النقاش من مساءلة البنى الرياضية والسياسية المسؤولة إلى صراعات جانبية بين جماهير منفعلة.
خامسًا: هل تشكّل هذه الظاهرة تحوّلًا حقيقيًا؟
من الضروري، منهجيًا، التمييز بين التحوّلات البنيوية في الوعي الجمعي وبين ردود الفعل الظرفية الناتجة عن صدمات انفعالية عابرة. فالمواقف التي عبّر عنها بعض التونسيين عقب الأحداث الرياضية الأخيرة لا يمكن قراءتها كتحوّل جذري أو مراجعة عميقة لمكانة القضية الفلسطينية في الوجدان الوطني، بقدر ما تمثّل حالة انفعال جماعي مؤقت ارتبطت بلحظة إحباط رياضي مكثّف. فالتجارب التاريخية القريبة، سواء في فترات العدوان على غزة أو في المحطات السياسية الإقليمية الكبرى، تُظهر ثباتًا نسبيًا في الدعم الشعبي التونسي لفلسطين، تجسّد في مظاهرات، حملات تضامن، ومواقف رمزية ومادية عابرة للاختلافات الأيديولوجية.
إن ما شهدته هذه اللحظة لا يمس جوهر القناعة الأخلاقية بقدر ما يعكس تحوّلًا في أنماط التعبير تحت ضغط الانفعال الجمعي والفضاء الرقمي المتوتّر. ففي سياق يغلب عليه الغضب، تُختزل المواقف المعقّدة في شعارات حادّة، ويُستبدل النقاش العقلاني بتعبيرات احتجاجية رمزية لا تدوم بمجرد زوال الحدث المحفِّز. ومن هذا المنظور، يمكن فهم هذه الظاهرة ضمن منطق “السيولة الموقفية”، حيث تتقلّب التعبيرات العلنية دون أن يصاحبها تغيّر راسخ في منظومة القيم.
تكشف هذه الحالة بوضوح كيف يمكن لكرة القدم، بوصفها ظاهرة اجتماعية–نفسية ذات طاقة رمزية عالية، أن تُعيد تشكيل المواقف مؤقتًا، وأن تُبرز هشاشة بعض أشكال التضامن التي لم تُبنَ على وعي نقدي عميق، بل على توافق عاطفي عام. غير أن هذه الهشاشة لا تعني انهيار المنظومة القيمية، بل تكشف الحاجة إلى إعادة تأصيلها وتحصينها ضد الانفعالات الظرفية.
فالمجتمع التونسي، كجزء من الفضاء العربي الأوسع، يملك رصيدًا تاريخيًا وأخلاقيًا متراكمًا في دعم القضايا العادلة، وفي مقدّمتها القضية الفلسطينية، وهو رصيد مكّنه في السابق من تجاوز لحظات الإحباط والارتباك واستعادة التوازن بين الانتماء الوطني والموقف الإنساني. وعليه، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في الغضب العابر أو ردود الفعل الانفعالية الناتجة عن خسارة رياضية، بل في بناء وعي جماعي قادر على التمييز بين الانفعال المشروع بوصفه تعبيرًا إنسانيًا طبيعيًا، وبين التخلّي غير المبرّر عن مبادئ أخلاقية كونية لا ينبغي أن تُختزل أو تُقايض بنتيجة مباراة أو ظرف عاطفي طارئ.



