المسرح التونسي… ذاكرة تتحرك و رهانات جديدة

المسرح التونسي… ذاكرة تتحرك ورهانات جديدة

أ. رجاء السنوسي
يظلّ المسرح في تونس جزءاً من الحياة الثقافية لا يغيب. ليس مجرد ركح أو فعل ترفيهي، بل مساحة للتفكير والمساءلة وطرح الأسئلة التي قد لا تجد مكاناً في المنابر الأخرى فمنذ بدايات القرن العشرين، مرّ المسرح التونسي بمحطات رسمت مساره بين التجريب والالتزام وبين الهواجس الاجتماعية والسياسية التي طبعت فترات مختلفة من تاريخ البلاد.
الجذور تعود إلى زمن أبعد بكثير. فضاءات مثل مسرح قرطاج ودقّة وسوسة تشهد على أن الفعل المسرحي كان جزءاً من الحياة العامة منذ العصور القديمة. ومع تأسيس الفرق والجمعيات المسرحية في القرن الماضي، ثم مدارس التكوين بعد الاستقلال، تشكل جيل من الممثلين والمخرجين الذين وضعوا للمسرح هوية تونسية واضحة. وفي السبعينات والثمانينات أصبحت الخشبة مساحة لنقاش المجتمع والدولة وللتعبير عن طبقات مهملة وأسئلة وجودية وسياسية لم تكن مطروحة بذلك الوضوح في فضاءات أخرى. أحياناً كان المسرح أكثر جرأة من الإعلام المكتوب والمرئي.

لكن الطريق لم يكن ممهّداً دائماً. صعوبات التمويل، تقلّص الفضاءات، وتذبذب علاقة الجمهور بالعرض المسرحي فرضت على الفنانين البحث عن مسارات جديدة. لذلك ظهرت تجارب شبابية تعتمد الجسد والحركة أكثر من الحوار الكلاسيكي، وتجارب أخرى خرجت من القاعات المغلقة نحو الشارع والساحات العامة، محاولة إعادة بناء علاقة مباشرة مع الناس.
اليوم يقف المسرح التونسي أمام مرحلة انتقالية. هناك بحث عن أشكال جديدة دون التخلّي عن الروح الأساسية التي جعلت منه فناً حيوياً قادراً على التقاط تحولات المجتمع.
أيام قرطاج المسرحية 2025 موعد تتقاطع فيه التجارب
من 22 إلى 29 نوفمبر 2025 تحتضن تونس الدورة السادسة والعشرين من أيام قرطاج المسرحية. المهرجان لا يقوم فقط على تقديم عروض من تونس والعالم العربي وإفريقيا، بل يعمل أيضاً على خلق مساحة حوار بين أساليب مختلفة ورؤى متنوّعة حول معنى المسرح اليوم ودوره.
من بين ملامح هذه الدورة استمرار قسم “تعبيرات مسرحية في المهجر”، الذي يعترف بتجارب الفنانين التونسيين المقيمين خارج البلاد. هذا الفضاء لا يضيف أسماء جديدة فقط، بل يعيد ربط المسرح التونسي بسياقات ثقافية أوسع، ويُظهر أن التجربة المسرحية التونسية لا تُبنى داخل حدود جغرافية ضيقة.
كما تسعى هذه الدورة إلى تعزيز العلاقة مع الجمهور، خاصة في ظل الرغبة المتزايدة لدى عدد من الفرق في تقديم عروض خارج الفضاءات التقليدية. المسألة لم تعد فقط عرضاً يُشاهد، بل تجربة تُعاش.
تساؤلات المرحلة
التحدّي اليوم لا يقتصر على إنتاج عروض جديدة، بل على إعادة بناء علاقة حيّة بين المسرح والجمهور. كيف يمكن للركح أن يستعيد مكانه كفضاء ضروري لا كحدث موسمي؟ وهل تستطيع أيام قرطاج المسرحية أن تتحول من مهرجان سنوي إلى مسار عمل يمتد طوال العام، ينتهي بتجارب ملموسة لا بمجرد برمجة تُطوى مع إسدال الستار؟
كما تبرز مسألة حرية الخشبة اليوم. في زمن تتعدد فيه المنصات ويتسارع الإيقاع، هل يستطيع المسرح أن يحافظ على حضوره كمساحة للعقل والإنصات والجدل؟
هذه الأسئلة لا تخص أهل المهنة وحدهم، بل ترتبط بالمجتمع كله وبالعلاقة بين الفن والواقع.

في الختام
المسرح التونسي لا يعيش على الذاكرة، بل يشتغل عليها ويعيد صياغتها. وأيام قرطاج المسرحية 2025 يمكن أن تكون لحظة جديدة في هذا المسار، بشرط أن تبقى التجربة حيّة، لا مجرد حدث يمر وينتهي.
فالمسرح في النهاية يُقاس في اللحظة التي يسود فيها الصمت على خشبة الركح أمام عينين تتبعان وجسد يتحرك وصوت يبحث عن صدى.




