مقالات كل العرب

فرنسا أمام أزمة النموذج السياسي: بين أرث الثورة و رفض الإصلاح

فرنسا أمام أزمة النموذج السياسي: بين إرث الثورة ورفض الإصلاح

د. محمد بن أحمد المرواني

اجتمعت في إحدى الامسيات مع صديقي السياسي الفرنسي و ناقشنا الوضع السيلسي في فرنسا من ضمن عدة مواضيع تطرقنا لها في لقائنا الفكري المتكرر. فوعدته ان ارسل له مقالان سابقان كنت قد كتبتهما عن الوضع السياسي في فرنسا إبان الحل الاخير للبرلمان الفرنسي من قبل الرئيس امانويل مكرون و الذي قاد الى الوضع السياسي المتأزم الحالي .
في الحقيقة ان صديقي السياسي الفرنسي قرأ المقالان ثم كتب لي رد من وجهة نظره كسياسي فرنسي متمكن.
و بكل صدق كانت رؤيته ثاقبة و عميقة و متفهمة للوضع السياسي و الشعبي الفرنسي بطريقة لم أكن لاراها انا شخصيا و هو ما يؤكد المثل القائل ان اهل مكة ادرى بشعابها
و من ملاحظات و تحليلات صديقي السياسي الفرنسي صغت هذا المقال و الذي يرجع الفضل الاول في كتابته بهذه الافكار هو صديقي العزيز السياسي الفرنسي سابق الذكر .
من وجهة النظر التحليلية الداخلية العميقة تبدو فرنسا اليوم وكأنها تسير على خيطٍ دقيقٍ بين المجد التاريخي والانحدار المعاصر. الجمهورية الخامسة التي بناها الجنرال ديغول على أنقاض فوضى الجمهورية الرابعة، تواجه اليوم اختبارًا وجوديًا جديدًا: كيف يمكن إصلاح دولة فقدت ثقتها في السياسيين، وشعبٍ لم يعد يثق في فكرة الإصلاح نفسها؟

ماكرون: الرئيس الذي كسر النظام دون أن يبني بديلاً

حين صعد إيمانويل ماكرون إلى السلطة عام 2017، كان يمثل في نظر كثيرين «الجيل الجديد» من القادة الأوروبيين: شاب، تكنوقراطي، لا ينتمي لليمين التقليدي ولا لليسار العمالي.
أسس حركته السياسية «الجمهورية إلى الأمام» بسرعة مدهشة، وجمع تحت لوائها سياسيين من أطراف متناقضة في محاولة لبناء كتلة وسطية حديثة.
لكن النتيجة كانت تفكيك النظام الحزبي الفرنسي برمّته. فالحزب الاشتراكي الذي أنجب شخصيات مثل فرانسوا ميتران وفرنسوا هولاند تلاشى، وحزب الجمهوريين الذي قاده ديغول وساركوزي فقد وزنه تمامًا.

اليوم، لا يوجد في فرنسا سوى وسط هشّ يقوده ماكرون وأطراف متطرفة تزداد نفوذًا:
– اليمين القومي بزعامة مارين لوبان،
– واليسار الراديكالي بقيادة جان لوك ميلانشون.

وبينهما فراغ سياسي يجعل التداول السلمي على السلطة، الذي ميّز الحياة السياسية الفرنسية لعقود، أمرًا شبه مستحيل.
ولعلّ أبرز تجليات هذه الأزمة هو ما نراه اليوم من انقسام في البرلمان، وصعوبة تمرير أي قانون، حتى في القضايا الاقتصادية أو الاجتماعية الملحّة.

شعب الثورة لا يقبل الإصلاح

الفرنسيون شعب لا يُحبّ الانضباط بقدر ما يعشق النقاش والمواجهة.
فمنذ ثورة 1789 وحتى احتجاجات مايو 1968 التي هزّت الجامعات والمصانع، لم تفقد فرنسا تلك الروح الثورية التي تسكن وجدانها الجماعي.
لكن ما كان يومًا مصدر مجدها، أصبح اليوم عبئًا على الدولة.

فكل محاولة لإصلاح نظام التقاعد، أو لتعديل قوانين العمل، أو حتى لرفع الضرائب البيئية، تتحول إلى حركات احتجاجية عارمة، وأحيانًا إلى مواجهات عنيفة في شوارع باريس وليون ومرسيليا.
مشاهد السترات الصفراء (Les Gilets Jaunes) التي ملأت شوارع فرنسا بين عامي 2018 و2019، تظل مثالًا صارخًا على هشاشة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
كان مطلب المحتجين بسيطًا في بدايته: رفض رفع ضريبة الوقود، لكنه سرعان ما تحوّل إلى صرخة ضد الظلم الاجتماعي وضد الرئيس ماكرون شخصيًا، الذي رأى فيه كثيرون رمزًا لفرنسا النخبوية البعيدة عن هموم الطبقة المتوسطة.

اليوم، فرنسا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي لا يزال يعيش معضلة إصلاح نظام التقاعد، بينما نجحت ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا في رفع سن التقاعد من دون أن تسقط حكوماتها أو تُحرق عواصمها.

المال في فرنسا: تهمة لا ميزة

في الوعي الفرنسي، أن تكون غنيًا يعني أن تكون موضع شك.
هذا التصور نابع من إرثٍ طويل من العدالة الاجتماعية، لكنه تحوّل بمرور الوقت إلى نظرة عدائية تجاه النجاح الاقتصادي.
في الثقافة الفرنسية، «رجل الأعمال» ليس رمزًا للإنجاز، بل «المستغِلّ» الذي يربح على حساب الآخرين.

ولعلّ الرئيس ماكرون نفسه واجه هذه الصورة حين وصفه معارضوه بأنه «رئيس الأغنياء» بعد إلغاءه ضريبة الثروة عام 2018.
كانت تلك الخطوة تهدف إلى جذب الاستثمارات وتحفيز روح المبادرة، لكنها فُسّرت شعبيًا كخدمة للأثرياء على حساب الطبقات العاملة.
في المقابل، لا يزال الخطاب اليساري في فرنسا يرى أن الأثرياء يجب أن يدفعوا ثمن كل إصلاح، ما يخلق بيئة طاردة للمستثمرين ورجال الأعمال.
وهكذا تتكرّر المفارقة الفرنسية: دولة تطالب بالنمو، لكنها تخشى كل ما يرتبط بالثروة.

العمل لا يجلب الحافز

من أخطر ما يواجه فرنسا اليوم هو أن العمل لم يعد يستحق العناء.
فبفضل نظام الإعانات الاجتماعية السخي، يحصل بعض العاطلين عن العمل على دعم مالي يقارب ما يجنيه العاملون في وظائف متواضعة.
في بعض المناطق، يتقاضى الشخص الذي لا يعمل سوى 200 يورو أقل من زميله الذي يعمل 40 ساعة أسبوعيًا.

هذه المعادلة تقتل روح المبادرة وتُغذي السخط الاجتماعي.
وفي الوقت ذاته، يُوجَّه اللوم إلى المهاجرين والأجانب باعتبارهم السبب في ارتفاع البطالة أو سوء توزيع الموارد، رغم أن الواقع الاقتصادي أكثر تعقيدًا من ذلك.
وهكذا تتحول الأزمة الاجتماعية إلى توتر ثقافي وهويّاتي، يُغذّي صعود الخطاب اليميني المتطرف في الحملات الانتخابية.

أزمة الدولة والديون وغياب القادة

منذ رحيل الجنرال ديغول، لم تعرف فرنسا زعيمًا يجمع بين الشرعية التاريخية والرؤية الاستراتيجية.
ديغول أسس الجمهورية الخامسة ليعيد للدولة هيبتها بعد حرب الجزائر، لكن خلفاءه لم ينجحوا في الحفاظ على تلك الصلابة.
فمن فاليري جيسكار ديستان إلى جاك شيراك، ومن ساركوزي إلى هولاند، تراجع الدور الفرنسي تدريجيًا أمام تعقّد البيروقراطية وتراكم الديون العامة التي تجاوزت 110% من الناتج المحلي.

أما اليوم، فإن الحكومة تجد نفسها مكبّلة بالديون وبالرفض الشعبي لأي تقشف.
وفي غياب زعيم كاريزمي أو مشروع وطني موحِّد، باتت فرنسا تخوض معركة وجودية بين الواقعية الاقتصادية والرومانسية الاجتماعية التي تطبع وجدانها منذ قرنين.

خاتمة: هل يمكن أن تولد جمهورية سادسة؟

إن أزمة فرنسا ليست أزمة حكومة أو حزب، بل أزمة ثقافة سياسية بأكملها.
شعبها يعتز بحريته الفردية، لكنه يرفض الانضباط الجماعي.
يحب العدالة الاجتماعية، لكنه يخشى المنافسة الاقتصادية.
ينتقد الدولة، لكنه يعتمد عليها في كل شيء.

هذه المفارقات تجعل من إصلاح فرنسا مهمة تكاد تكون مستحيلة، ومع ذلك فهي ضرورة تاريخية لا مفر منها.
فإما أن تنجح الجمهورية الخامسة في تجديد نفسها، أو أن التاريخ سيُجبرها على ولادة جمهورية سادسة تُعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.

فرنسا اليوم تقف أمام مفترق طرق:
إما أن تُعيد اكتشاف روح ديغول في الشجاعة والقيادة،
أو أن تبقى عالقة بين مجد الأمس وارتباك الحاضر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى