رهائننا متى؟ لبنان بين وهم الانتصارات و حقيقة الأسر

رهائننا متى؟ لبنان بين وهم الانتصارات وحقيقة الأسر
د. جيلبير المجبر
في زمنٍ تتبدّل فيه المعادلات بسرعة الضوء، تبقى الحقيقة الثابتة أنّ الشعوب الصغيرة تُستعمل وقودًا في حروب الكبار. كلّ طرفٍ يرفع شعار النصر، لكن خلف تلك الشعارات تسكن الهزيمة الحقيقية: هزيمة الإنسان، وهزيمة الدولة، وهزيمة المستقبل.
منذ انطلاقة «طوفان الأقصى»، أراد البعض أن يصنع من الدم والمأساة ملحمة نصرٍ مقدّس. غير أنّ ما سُمّي لاحقًا «نهاية المعركة» جاء على شكل قبولٍ بخطةٍ أميركية وإطلاقٍ للرهائن، أي بخطابٍ سياسي يعيدنا إلى منطق التسويات لا إلى ساحات التحرير. ما سُمّي انتصارًا انتهى إلى تفاوضٍ على شروط الآخرين، لا على شروطنا.
وفي لبنان، المشهد لا يختلف كثيرًا. حزب الله، الذي رفع راية «المساندة» دفاعًا عن فلسطين، اختتم حربه بوقفٍ لإطلاق النار تحت إشراف لجنةٍ يرأسها جنرال أميركي. المفارقة القاسية أنّ من كان يُعدّ خصمًا صار هو من يوقّع على النصر اللبناني. هنا يصبح السؤال مؤلمًا: أية مساندةٍ تلك التي تنتهي بتوقيع الخارج؟ وأي انتصارٍ ذاك الذي يُفرض بإرادة الخصم لا بقرار الوطن؟
ما نعيشه اليوم ليس انتصارات، بل حروب مشاغلة. حروبٌ تُشعلها الشعارات وتُطفئها المصالح. حروبٌ تشبه دورانًا أبدياً لطواحين الهواء؛ ضجيجٌ بلا طحين، وسلاحٌ بلا سيادة. كلّ طلقة تُطلق من الجنوب تُصيب في قلبها ما تبقّى من لبنان الرسمي، من الدولة، من الاقتصاد، ومن الحلم. كلّ يومٍ يمرّ، يتحوّل فيه الوطن إلى رهينة جديدة، تُفاوض عليه القوى الإقليمية والدولية، ويُترك شعبه يدفع الفاتورة بالهجرة والجوع والانكسار.
رهائننا ليسوا في الأنفاق، بل في المكاتب المعطّلة، في المدارس المقفلة، في المستشفيات المهدّدة بالإفلاس، في جيوب الناس الفارغة، وفي بيوتٍ تنطفئ فيها الكهرباء ويشتعل فيها القلق. رهينتنا الكبرى اسمها لبنان، ومطالب فديتها ليست بالسلاح، بل بالكرامة والسيادة والقرار الوطني الحر.
لقد تعب اللبناني من الانتصارات النظرية التي لا تُطعمه خبزًا ولا تحفظ له كرامة. تعب من انتظار المنقذ الذي لا يأتي، ومن وعودٍ تختبئ خلفها حساباتٌ إقليمية لا علاقة لها بمصلحة الوطن. تعب من لغةٍ تتحدث عن الكرامة فيما هو يبحث عن ربطة خبز، ومن شعاراتٍ تتغنّى بالعزة فيما الدولة تترنّح على حافة الإفلاس والفراغ.
التحرير الحقيقي اليوم لا يكون بتحرير أرضٍ من جندي، بل بتحرير وطنٍ من رهاناته، ومواطنٍ من خوفه، ودولةٍ من شللها. النصر لا يُقاس بعدد الصواريخ التي تُطلق، بل بعدد العقول التي تُبنى، والمؤسسات التي تُصلح، والأطفال الذين يعودون إلى مدارسهم مطمئنين. لبنان لا يحتاج إلى سلاحٍ جديد، بل إلى فكرٍ جديد. إلى وعيٍ جماعيّ يضع مصلحة الوطن قبل مصلحة المحور، وكرامة المواطن قبل شعارات الممانعة أو الولاء. يحتاج إلى قادةٍ يجرؤون على قول الحقيقة: أنّ سيادة القرار أهم من كل التحالفات، وأنّ كرامة الشعب هي الحدّ الفاصل بين المقاومة الحقيقية والمقاولة السياسية.
ومتى نُفرج عن رهائننا؟ حين نكفّ عن تصديق أنّ كل اشتباكٍ هو انتصار، وأنّ كل صمتٍ هو خيانة. حين نعيد إلى الدولة دورها، وإلى المؤسسات هيبتها، وإلى المواطن ثقته بأنّ بلده ليس ورقةً في مكاتب السفراء ولا ساحةً لتصفية الحسابات. نعم، لقد حان الوقت أن نحرّر لبنان من طواحين الهواء، أن نكسر دوامة الوهم، أن نُفرج عن الرهينة الكبرى عن وطنٍ اسمه لبنان، لكي لا نُكتب يومًا في كتب التاريخ: أنّنا شعبٌ أحبّ النصر أكثر مما أحبّ الحياة.
سفير حقوق الإنسان – المودّة، باريس