القراءة.. حياة تتسع كلما ضاقت الحياة

القراءة.. حياة تتسع كلما ضاقت الحياة
أ. ياسمين عبدالسلام هرموش
في عصرٍ تتسارع فيه الخطى، وتزدحم فيه الشاشات الصغيرة بالصور والأخبار، يبدو الإنسان أكثر عرضةً لفقدان ذاته في دوامة اللحظة العاجلة. هنا تأتي القراءة، لا كترفٍ ولا كهوايةٍ جانبية، بل كحاجةٍ وجودية تعيد إلينا اتزاننا الداخلي. القراءة ليست مجرد كلماتٍ نصطفها أمام أعيننا، إنما هي عملية عبورٍ من ضيق العالم إلى سعته، ومن ضجيج الواقع إلى صفاء المعنى.
الكتاب بوابة العوالم
حين نفتح كتابًا، نفتح معه أبوابًا سرية لعوالم لا متناهية. الرواية تمنحنا حياةً جديدة، نصبح فيها أبطالًا نشهد حروبهم، نعيش حبّهم، ونتقاسم معهم قلقهم وفرحهم. القصيدة تجعلنا نرى العالم بعدسات مختلفة، حيث تتحول تفاصيل الحياة الصغيرة إلى إشارات كونية. وحتى النصوص الفكرية تفتح في عقولنا مساحات من التساؤل، تدفعنا إلى إعادة النظر في مسلّماتنا اليومية.
في الحقيقة، الكتاب ليس أوراقًا وحبرًا فحسب؛ إنه حياة كامنة تنتظر من يحررها بالقراءة. لهذا، قد نجد القارئ يبتسم وحده وهو يتنقل بين الصفحات، أو تلمع عيناه بدمعةٍ خفية، وكأن النص قد لامس في داخله وترًا شخصيًا لا يعرفه سواه.
القراءة كفعل مقاومة
أن نقرأ يعني أن نقاوم. نقاوم تفاهة المحتوى السريع، نقاوم استهلاك أرواحنا في ما لا يغذيها. القراءة تتيح لنا أن نتوقف قليلًا في وجه الزمن، أن نستعيد حقنا في التأمل، في فهم المعنى الأبعد خلف الظواهر. في زمن يستهلكنا بسطحه، القراءة عمقٌ يردّ إلينا إنسانيتنا.
والمفارقة أنّ الكتاب لا يفرض على قارئه درسًا بعينه، بل يمنحه مساحةً ليجد فيه ما يحتاجه هو بالذات. قد يكون النص ذاته عزاءً لقلبٍ مثقل، وإلهامًا لعقلٍ باحث، ورفقةً لروحٍ وحيدة. كأن الكتاب مرآة متعددة الأوجه، يريك منها ما يليق بلحظتك الداخلية.
أثر القراءة في الذات والمجتمع
القراءة ليست فعلًا فرديًا محضًا؛ فالقارئ الذي يتغذى بالكتب يتحول تلقائيًا إلى إنسانٍ أكثر وعيًا، وأكثر رحمةً وفهمًا للآخر. يقال إن الإنسان لا يعيش حياةً واحدة، بل بقدر ما يقرأ يعيش حيواتٍ متعددة. في كل كتاب نتعلم درسًا جديدًا عن أنفسنا وعن العالم: نتعرف على الثقافات، نتذوق الجمال، نفهم التاريخ، ونبصر المستقبل.
أما المجتمعات التي تجعل من القراءة عادةً يومية، فهي مجتمعات تمتلك قدرةً أكبر على التغيير والإبداع. فالكلمة الحرة هي الشرارة الأولى لكل نهضة، والفكر العميق الذي يتشكل بالقراءة هو السلاح الأقوى ضد التبعية والتقليد.
خاتمة.. القراءة كحبّ لا كواجب
ربما لهذا قال بورخيس عبارته الشهيرة: “لطالما تخيلتُ أن الجنة ستكون مكتبة.” فالجنة الحقيقية لا تكمن في وفرة الأشياء، بل في غنى المعنى. والقراءة هي المعبر الأجمل إلى هذا الغنى.
فلنعد إلى الكتب لا بصفتهن فرضًا ثقافيًا، بل بصفتهن عشقًا شخصيًا. لنقرأ لأن القراءة تمنحنا ما لا تمنحه الدنيا بأسرها: حياةً أوسع، قلبًا أرحب، وعقلًا يرى أبعد من حدود اللحظة.