عقيدة المحيط

عقيدة المحيط
أ. معتز فخرالدين
تشهد منطقتنا العربية تحديات وصراعات مركبة، تتجاوز حدود السياسة إلى عمق الجذور الاجتماعية والهوياتية، حيث تتصارع مشاريع إقليمية ودولية لاستثمار الانقسامات الداخلية وفرض نفوذها تمهيدًا لتحقيق أهدافها. في هذه السلسلة التحليلية المكوّنة من ثلاثة مقالات، نسلط الضوء على استراتيجيات مركزية شكلت معالم هذا الصراع:
• عقيدة المحيط التي تبنتها إسرائيل في مراحل تأسيسها لتطويق العالم العربي عبر تحالفات مع الأقليات والدول المحيطة،
• وعقيدة تصدير الثورة التي أرستها إيران لنشر نفوذها المذهبي والسياسي،
• ثم نختم بمقارنة معمقة تكشف التقاطعات والاختلافات بين المشروعين وتأثيرهما في تفكيك الوحدة العربية.
المقال الأول: عقيدة المحيط (Periphery Doctrine)
هي استراتيجية تبنتها إسرائيل في سنوات تأسيسها الأولى، تهدف إلى كسر العزلة التي فرضتها عليها الدول العربية المحيطة بها، عبر بناء تحالفات مع دول وأقليات غير عربية وغير إسلامية تقع على “محيط” العالم العربي.
الفكرة الأساسية
تعتمد العقيدة على استثمار التوترات والصراعات العرقية والطائفية داخل الدول العربية، بالتحالف مع أقليات أو دول غير عربية تشعر بالتهديد من الأنظمة العربية القومية أو الإسلامية. هذه الأقليات والدول يُنظر إليها كحلفاء طبيعيين لأنها تشترك مع إسرائيل في حالة العداء أو الخوف من الدول العربية المحيطة.
أهم ملامحها
• إقامة تحالفات مع دول مثل إيران في عهد الشاه، تركيا، وإثيوبيا.
• التحالف مع أقليات مثل الأكراد في العراق، والمسيحيين في لبنان والسودان.
• دعم حركات انفصالية أو معارضة داخل الدول العربية لتعزيز عدم الاستقرار وزعزعة الوحدة العربية.
• بناء “حلف أقليات” يمكن لإسرائيل الاعتماد عليه لتأمين مصالحها الأمنية والاقتصادية، وللحيلولة دون توحد الدول العربية ضدها.
الهدف
تهدف هذه العقيدة إلى تفتيت الوحدة العربية والإقليمية المعادية لإسرائيل عبر استثمار التنوع العرقي والطائفي، بحيث تتحول الأقليات إلى أدوات استراتيجية تدعم أمن إسرائيل وتوسع نفوذها.
تطبيق عقيدة المحيط وتأثيرها في المنطقة
1. الدعم المباشر للأقليات:
• الأكراد: إسرائيل دعمت الأكراد في العراق وسوريا باعتبارهم أقلية عرقية تطالب بحقوق وطنية، مما ساعد في خلق نقطة ضعف داخل الدول العربية التي تتواجد فيها هذه الأقليات.
• المسيحيون في لبنان: إسرائيل استثمرت في تحالفاتها مع بعض الجماعات المسيحية اللبنانية، خاصة خلال الحرب الأهلية، حيث كانت تدعم حزب القوات اللبنانية الذي كان يمثل جزءًا من هذه الأقليات.
2. التحالفات مع دول على المحيط:
• إيران في عهد الشاه كانت حليفًا لإسرائيل ضد الأنظمة العربية، مثل مصر وسوريا.
• تركيا، دولة غير عربية، حافظت على علاقة استراتيجية مع إسرائيل، خاصة في العقود الماضية.
• إثيوبيا كانت حليفة إسرائيل في القرن العشرين، بما فيها دعمها في بعض النزاعات الإقليمية.
3. استغلال الانقسامات الداخلية:
• دعم حركات انفصالية أو معارضة مثل الأكراد أو جماعات مسيحية أو درزية، بهدف تقويض الوحدة الوطنية في الدول العربية.
• استخدام هذا الدعم لزعزعة استقرار الأنظمة العربية عبر تأجيج الصراعات العرقية والطائفية.
4. تحقيق مصالح أمنية واقتصادية:
• توفير معلومات استخباراتية عبر هؤلاء الحلفاء داخل المجتمعات المستهدفة.
• تأمين طرق آمنة وموثوقة لنقل الأسلحة والمعدات.
• خلق مناطق نفوذ وتأثير يمكن أن تستخدمها إسرائيل كورقة ضغط أو حصن أمام أي تهديد عربي.
5. في السياق السوري الحالي:
• مع ضعف النظام المركزي في سوريا نتيجة الحرب، وإضعاف بعض المكونات، تحاول إسرائيل استغلال هذا الانقسام عبر دعم بعض الأقليات أو الجماعات المناهضة للنظام بهدف إضعاف قدرة سوريا على استعادة سيادتها الكاملة.
• تسويق نفسها كـ”حامية للأقليات”، مما يعزز نفوذها السياسي في مناطق مثل شمال وشرق سوريا، ويؤمن لها مزيدًا من المنافع الأمنية.
النسخة الجديدة من عقيدة المحيط
بعد سقوط الشاه وإقامة الثورة الإسلامية في إيران، وتغير النظام التركي مع صعود حزب العدالة والتنمية، ومع اتفاقيات السلام بدءًا من كامب ديفيد مع مصر وصولًا إلى اتفاقيات أبراهام مع بعض الدول العربية، أعادت إسرائيل صياغة عقيدة المحيط في نسخة حديثة. تركز هذه النسخة على مواجهة التحديات الإقليمية المعاصرة، بما فيها النفوذ الإيراني والتهديدات التركية، عبر تحالفات مع دول مثل أذربيجان، اليونان، وقبرص. وتؤكد استمرار الرهان على الانقسامات الداخلية كأداة استراتيجية، مع ضبطها وفق الواقع الجيوسياسي الجديد لضمان أوراق ضغط إضافية وتأمين مصالح إسرائيل الاستراتيجية.
البعد الفلسطيني
يبقى الصراع مع الفلسطينيين محورًا أساسيًا في أهداف إسرائيل الاستراتيجية. فاستغلال الانقسامات الداخلية والتحالف مع دول وأقليات محيطة لا يقتصر على ضمان الأمن والموارد، بل يهدف أيضًا إلى تفكيك وحدة الأمة العربية وتقويض أي دعم فلسطيني موحد، بما يضمن استمرار الهيمنة الإسرائيلية في المنطقة.
خلاصة
عقيدة المحيط تقوم على بناء شبكة تحالفات مع الأقليات والدول التي تعيش في محيط الدول العربية، بهدف استغلال التنوع الداخلي للمنطقة لزعزعة استقرار الدول العربية، وبالتالي تأمين مصالح إسرائيل الاستراتيجية على المدى الطويل.
بينما تعتمد إسرائيل على تحالفات خارجية واستغلال الانقسامات الداخلية لتأمين مصالحها، تتبنى إيران نهجًا يقوم على تصدير الثورة وتوسيع نفوذها المذهبي والسياسي، وهو ما سنستعرضه بالتفصيل في المقال الثاني لنكشف التفاعلات والتقاطعات بين المشروعين وتأثيرهما على وحدة واستقرار المنطقة