
ماذا يعني أن تكون فناناً؟
حين يغني الفن للجلاد… ويسكت عن صرخة الضحية
أ. معتز فخرالدين
يُنظر إلى الفنان غالباً بوصفه حاملاً لحساسية استثنائية تجاه الواقع، وناطقاً باسم الألم الإنساني، لا مجرد صانع للجمال أو مبتكرٍ للشكل. فالفن، في جوهره، ليس معزولاً عن القيم والمعاني الكبرى، بل هو في أفضل حالاته شكل من أشكال المقاومة الرمزية، وصوت في وجه السلطة، وفضاء لنقد البنى السائدة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. لكن في لحظات التحولات التاريخية الكبرى، كالثورات أو الكوارث الوطنية، يُمتحن الفنان كما المثقف امتحاناً أخلاقيا حاسماً. هنا، لا تكفي الموهبة، ولا يُعفى صاحبها من مسؤولية اتخاذ موقف. وفي السياقات التي ترتفع فيها أصوات الشعوب مطالبة بالحرية والكرامة، يصبح الصمت تواطؤاً، والحياد خيانة رمزية، والدعم لأنظمة القمع سقوطاً مدوياً. في التجربة العربية الراهنة، منذ انطلاق الثورات الشعبية، برزت مفارقة صادمة: عدد من الفنانين والمثقفين الذين ارتبطوا تاريخياً بخطاب التقدّم والعدالة والانحياز للفئات المهمّشة، وجدناهم في لحظة الحقيقة إما صامتين، أو مدافعين عن أنظمة الاستبداد، أو مبرّرين للعنف بذريعة مواجهة “الإمبريالية” أو الحفاظ على “الدولة”. هذه المفارقة تكشف إشكالية مزدوجة:
1. إشكالية الوعي السياسي لدى الفنان أو المثقف، حين يكون أسير سرديات أيديولوجية قديمة، غير قادرة على مواكبة تعقيدات الواقع المتحوّل. بعض هؤلاء ظلّ يتصرّف بوحي من منطق الحرب الباردة، يختزل كل الصراع في ثنائية الغرب مقابل محور “المقاومة”، دون مساءلة هذا المحور نفسه عن عنفه الداخلي وممارساته القمعية.
2. وإشكالية العلاقة بين الالتزام الفني والضمير الأخلاقي. لقد ناقش جان بول سارتر هذه العلاقة في كتابه الأدب هو التزام، معتبراً أن “الكتابة موقف”، وأن كل عمل أدبي أو فني هو تدخل في العالم، وبالتالي لا يمكن أن يكون بريئاً أو محايداً.
ومن زاوية أخرى، يرى أنطونيو غرامشي أن “المثقف العضوي” هو من يرتبط بالواقع الاجتماعي ويخوض معاركه لا بوصفه مراقبًا خارجياً، بل كفاعل عضوي ضمن نسيج الجماعة التاريخية. في هذا السياق، تصبح المواقف الفنية الداعمة للأنظمة القامعة غير مفهومة إلا من خلال إعادة قراءة موقع الفنان داخل البنية السياسية والثقافية. فالانحياز إلى “الدولة” لا يكفي لتبرير الصمت، ما دامت هذه الدولة تمارس القتل والقمع والتمييز بحق مواطنيها. كما لا يمكن تبرير التأييد لنظام دموي بذريعة مقاومته للغرب، إذ إن الشرعية الأخلاقية لأي فعل سياسي تبدأ من احترام كرامة الإنسان في الداخل، لا من موقعه الجيوسياسي. الفن كمسؤولية تؤكد مدرسة “النقد الثقافي”، خصوصًا في أعمال إدوارد سعيد، أن الفنان أو المثقف مطالب بتقويض خطاب الهيمنة، ومساءلة السرديات الرسمية، و”الانشقاق عن السلطة لا التناغم معها”. فالمثقف الفنان، بحسب سعيد، لا يعمل من داخل المؤسسات، بل من تخومها، حيث يمكنه أن يرى المفارقات ويتكلم بحرية. من هنا، لا يمكن للفن أن يبقى في المنطقة الرمادية في زمن المقتلة. فإما أن يكون في صف الإنسان، أو ضدّه، بصرف النظر عن الأعلام والشعارات. وإذا فقد الفن هذه القدرة على الانحياز الأخلاقي، أو تحوّل إلى تبرير رمزي للسلطة، فإنه يتخلّى عن جوهره التحرري، ويتحوّل إلى أداة تطبيع مع القمع، مهما بلغت تقنياته الجمالية أو كثرت شعاراته الثورية. في الختام: لقد أثبتت التحولات العربية الأخيرة أن الجمال وحده لا يكفي. فالفنان الذي لا يسمع صرخة الضحية، أو يتغاضى عنها بحجة التعقيد السياسي، إنما يُفرّغ فنه من معناه، ويمنح أدوات التعبير لطغاة الزمن كي يُجمّلوا بها بشاعتهم. في النهاية، لا يُقاس الفن بجرأته على الشكل، بل بجرأته على قول الحقيقة. والفنان الحقيقي ليس مَن يُدهشنا بحضوره على المسرح، بل مَن يجرؤ على الوقوف في الهامش إلى جانب من لا صوت لهم.