مقالات كل العرب

لا عذر لمن أدرك الفكرة و تخلى عنها

شارك

لا عذر لمن أدرك الفكرة وتخلّى عنها

أ. معتز فخرالدين


‎(حين يُسوَّغ الخوف الطغيان، وتُقايَض الأمة على حريتها بالأمان)
‎في تعقيب له على مقال سابق لي نُشر تحت عنوان *”حين تخون الديمقراطية الثورة”* (منتدى الحوار لتجديد الفكر القومي العربي – حزيران 2012)، كتب الدكتور الصديق مصطفى الحلوة:
مختصر الكلام: نعيش أزمة حضاريّة، من أعراضها أزماتنا السياسية التي تتناسل من بعضها البعض. والخروج من عنق الزجاجة يقتضي ثورة تنبع من الأعماق، ثورة في التفكير ومنهجية التفكير، ثورة في الرؤية إلى الأمور، تُشكّل النقيض من المألوف والمنمّط. ناهيك عن فكّ الاشتباك بين ما هو ديني وما هو دنيوي.
‎هذا التعقيب المكثّف يعيد فتح الجرح الذي ما زال نازفاً في واقعنا العربي: كيف يستمر الاستبداد رغم كل الكوارث التي أنتجها؟ وكيف يواصل الناس التمسك به أو التعايش معه، بل والدفاع عنه أحياناً، باسم الخوف من الفتنة أو التدخل الأجنبي أو الانقسام الطائفي؟

الغريب أن هناك من لا يزال حتى اليوم يروّج للاستبداد، بدعوى الخوف من تفكك الأمة أو ضياع الأمن أو ضغوط الخارج. كأن الحرية خطر، وكأن الكرامة ترف، وكأن الديمقراطية ترف لا يحتمله “الواقع المعقّد”. وهكذا، تُقدَّم الأمة قرباناً على مذبح “الاستقرار”، وتُختزل السيادة في بقاء الحاكم، ويُسوَّق الطغيان كحامٍ للوطن من الفوضى أو الغزو.

لكن الواقع الأشد مرارة هو أن الاستبداد لم يعد مجرد نظام سياسي مفروض من الأعلى، بل أصبح ثقافة راسخة تتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية. ثقافة تُعيد إنتاج نفسها عبر الأسرة والمدرسة والمنبر، وحتى النكتة الشعبية. الطاعة تُقدَّم كفضيلة، والخوف يُسمّى حكمة، والاعتراض يُصوَّر كخيانة.

في هذا المناخ، يصبح الحاكم ظلًّا لله، لا موظفاً عاماً، وتصبح المحاسبة جريمة، والمطالبة بالحقوق فوضى، والمساءلة تهديداً للوطن. ويتم إفراغ الدين من مضمونه التحرّري، ليُستخدم كأداة لتكريس الجبر والطاعة، ويجد الطغاة دائماً فقهاء يحيكون لهم الشرعية على مقاس المقصلة.

الاستبداد لا يعيش في الهواء، بل في بنية متكاملة: من قاضٍ خائف، إلى إعلامي مدّاح، إلى مثقف مبرّر، إلى مجتمع صامت. حتى اللغة تُستخدم لتزييف الوعي؛ فتُصبح “الممانعة” غطاءً للعجز، و”السيادة” قناعاً للقمع، و”الواقعية” وسيلة لقتل الأمل.

والأدهى من ذلك أن المجتمع نفسه يتحوّل إلى رقيب على ذاته: الوشاية تُصبح فضيلة، والنفاق يُقدَّم كنوع من “الحنكة”، ومجرّد الحلم بالحرية يُصنَّف كتهديد للتماسك الوطني. هذا التواطؤ الجماعي لا يمكن فصله عن الدور الذي لعبته بعض النخب الثقافية في تخدير الوعي، باسم “الخصوصية الثقافية” أو “الهوية” أو حتى “مصلحة الأمة”.

التحرر من هذا الإرث لا يبدأ بإسقاط أنظمة فقط، بل بتفكيك العقليات التي تنتجها. لا بد من قطيعة فكرية جذرية مع منطق الوصاية والتبعية الطوعية، مع ثقافة “الرعية” التي تنتظر من يقودها، لا “المواطنة” التي تصوغ مصيرها. نحن بحاجة إلى إنسان جديد، لا يخضع للطغيان باسم الطائفة، ولا يستسلم للخوف باسم الدين، ولا يبرّر الاستبداد باسم الواقعية.

إن أخطر ما أفسده الاستبداد ليس فقط السياسة أو الاقتصاد، بل الإنسان ذاته: وعيه، كرامته، خياله، وإرادته. وكل محاولة لبناء مستقبل جديد لا تبدأ بإعادة تشكيل هذا الإنسان، هي محاولة محكوم عليها بالفشل.

كل استبداد يبدأ بفكرة تُباع على الناس باسم الخوف، وكل حرية تبدأ بفكرة يُضحّى من أجلها رغم الخوف.
لا عذر لمن أدرك الفكرة وتخلّى عنها.
‎هذا النص وُلد استجابةً لتأملات عميقة أثارها تعليق الصديق الدكتور مصطفى الحلوة على مقال سابق لي، فكان تعقيبه الشرارة التي استنهضت السؤال مجددًا: كيف نتحرر من الاستبداد الذي يسكننا؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى