التطبيع مع الكيان الصهيوني تكريس للتبعية، و تخل عن الإنسانية
التطبيع مع الكيان الصهيوني تكريس للتبعية، وتخلٍّ عن الإنسانية
أ. حمزة أبو خالد
تشكل اتفاقيات التطبيع العربي مع الكيان الصهيوني امتدادًا لسياقات استعمارية بدأت بتقسيم المشرق العربي عبر “اتفاقية سايكس بيكو عام 1916م”، والتي صُمِّمت لضمان هيمنة القوى الغربية على المنطقة. هذا الإرث تجسَّد بوضوح في “وعد بلفور عام1917م”، الذي مهَّد لإنشاء كيان استيطاني في فلسطين بدعم غربي منهجي، كما أشار له المؤرخ جورج أنطونيوس في كتابه “يقظة العرب”.
ويُعاد إنتاج هذه الهيمنة اليوم عبر آليات جديدة، أبرزها “التطبيع السياسي والاقتصادي”، الذي يعزز التبعية للغرب ويُضعف الدولة بحكم اندماجها مع متطلبات المُهيمن والمطبِّع معه عن أي محاولة للتحرر الوطني، ويُعدم قدرتها على التعامل بالمفاهيم الأخلاقية والإنسانية.
*الهيمنة الاقتصادية عبر التطبيع*
تشير بيانات البنك الدولي لعام 2023م إلى أن 78% من صادرات دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعتمد على الموارد الناضبة (نفط، غاز)، مما يجعلها رهينة للتقلبات العالمية وتوجهات السوق المسيطر عليها من قبل القوى الإمبريالية.
ومن هنا حذَّر المفكر المصري سمير أمين في “التطور اللامتكافئ” عام 1976م من أن هذه الهياكل تُنتج “تبعية هيكلية” تمنع التصنيع المحلي وتجعل الاقتصادات العربية أسيرة للدوران في فلك المراكز الرأسمالية الغربية.
لذلك، فإن التطبيع الاقتصادي مع الكيان الصهيوني على هذا النحو يُعمِّق هذه التبعية عبر:
1. اختراق الأسواق العربية لمنتجات الشركات الصهيونية المدعومة من الغرب، والتي تعمل كواجهة للهيمنة التكنولوجية والعسكرية الأمريكية.
2. إفشال التكامل الاقتصادي العربي، حيث تحل “السوق الشرق أوسطية” المزعومة محل السوق العربية المشتركة؛ سوق مرتبطة، تابعة، تفقد الدائرة الاقتصادية قدرتها على الإنتاج وتجعلها في طور العبودية الاستهلاكية، مما يُضعف أي محاولة لبناء اقتصاد مستقل.
وأما دور الشركات العسكرية الأمريكية في تعزيز التبعية، فإنها مثل (لوكهيد مارتن، بوينغ، رايثيون) تعد لاعبًا رئيسيًا في فرض الهيمنة الإمبريالية عبر:
3. صفقات الأسلحة المشروطة بالتطبيع:
كما حدث في اتفاقيات “أبراهام” عام 2020م، حيث حصلت الإمارات على صفقات أسلحة متقدمة (مثل طائرات F-35) مقابل التطبيع مع الكيان الصهيوني، بشروط دُفِعت فيها القضايا الوطنية والإنسانية، كالقضية الفلسطينية، إلى الخلف؛ بل أصبح ملموسًا التنازل عنها والوقوف ضدها بطرق مكشوفة وغير مكشوفة.
4. التدريب الأمني المشترك:
تقوم الشركات الأمنية الأمريكية بتدريب الجيوش العربية على أنظمة قمعية تُستخدم لقمع أي حراك شعبي معادٍ للتطبيع، كما حدث في مصر والأردن واخيراً في رول الخليج ، وهذا ما يفسر حجم السجناء السياسيين، وبالخصوص الفلسطينيين، المتزايد في كل دول التطبيع، ومنها دول الخليج.
5. السيطرة على البنى التحتية الاستراتيجية:
مثل مشاريع الربط الكهربائي والغازي بين الكيان الصهيوني ودول الخليج، والتي تُدار عبر شركات أمريكية لضمان تبعية الطاقة العربية للغرب.
وفوق ذلك، فإن التطبيع بات أداة استعمارية جديدة تقوم على:
1. التغطية على جرائم الحرب وتفريغ العقل العربي والإسلامي من التفكير والاهتمام بالقضية الفلسطينية:
لذلك نرى خلال العدوان الأمريكي المشترك مع كيانه الصهيوني الدموي على غزة 2023م–2025م، وهذه الإبادة الجماعية الدموية المتعمدة لسكانها البالغ عددهم أكثر من مليوني فلسطيني، وكذلك التطهير العرقي الممنهج والمشهود للعالم، حيث سجّلت ووثّقت فيها الأمم المتحدة أكثر من 60,000 شهيد، والرقم لا يزال في ارتفاع (70% منهم أطفال ونساء)، بالإضافة إلى تدمير أكثر من 80% من البنية التحتية.
في أوج هذه المحرقة والإبادة الدموية الجماعية المريبة، والقتل مقابل الخبز أمام كامرات القنوات الفضائية وكأنها أفلام هوليوود، تستمر دول التطبيع في تعزيز العلاقات مع الكيان الصهيوني، ترسل أكفاناً لمذابح غزة، وفي المقابل، تغدق أموالاً لم نسمع بعظمة أرقامها من قبل لحلفاء هذا الكيان وشركاته العسكرية، للولايات المتحدة عبر رئيسها ترامب، هذا الذي فضحه صديقه إيلون ماسك عبر مؤسسة الابتزاز الجنسي للرؤساء والمسؤولين الأمريكيين الكبار التي يمتلكها صهاينة العالم، مما يعكس تواطؤاً صريحاً مع جرائم الحرب.
يذكر نعوم تشومسكي، الفيلسوف والمفكر السياسي الأمريكي الشهير، أن التطبيع في “الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط”، يعني تحوُّل الصراع من قضية تحرر وطني إلى “مشكلة إنسانية” قابلة للإدارة عبر المساعدات المحدودة، مما يُفقدها جوهرها وبُعدها السياسي.
*الهيمنة الثقافية وردود الأفعال*
وفي البُعد الثقافي والأكاديمي، يسعى التطبيع إلى إعادة كتابة التاريخ عبر شرعنة الرواية الصهيونية في المناهج التعليمية العربية، كما حدث في بعض الجامعات الخليجية بعد اتفاقيات التطبيع.
فجامعات الكيان الصهيوني أصبحت مرجعية للبحث العلمي في المنطقة، مما يعزز الهيمنة الفكرية الصهيونية ويُضعف الرواية العربية من تاريخ وهوية ومشاعر عربية وإسلامية مشتركة في الصراع العربي–الإمبريالي الصهيوني.
لذلك، وعلى هذا الأساس، كانت ردود فعل حركات التحرر العربية والعالمية المعادية للإمبريالية ودولة الاحتلال الصهيوني منذ البدء وعلى أربع مستويات:
1. المقاومة الفلسطينية والعربية:
حيث رفضت فصائل المقاومة الفلسطينية بمجملها – عدا بعض المنتفعين من التطبيع – ووصفته بأنه “خيانة للقضية الوطنية”، مؤكدة أن المقاومة المسلحة والمقاطعة الشعبية هما الخيار الوحيد لمواجهة الاحتلال.
2. الدول العربية أنظمة وشعوبًا:
عبَّرت دول عربية كثيرة عن رفضها للتطبيع المصري والأردني والخليجي، كما أن حركات شعبية واسعة ظهرت ضد أي توجه نحو التطبيع، معتبرة أنه “إضفاء شرعية على الاحتلال و جرائم الاحتلال” وإبعاد للدول المُطبعة وشعوبها عن ذلك.
3. الموقف الدولي:
شهدت الساحة الدولية حملات BDS (مقاطعة، سحب استثمارات، عقوبات) ونجحت في عزل الكيان الصهيوني أكاديمياً واقتصادياً في أوروبا وأمريكا اللاتينية، حيث أُلغيت عقود مع شركات للكيان الصهيوني متورطة في الاستيطان إثر تزايد الوعي هناك ومعرفة طبيعة الاحتلال الغير قانونية وممارساته في التطهير العرقي.
4. تضامن حركات اليسار العالمية:
وقد امتد هذا التضامن وشمل كل الساحات في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا، وحتى شمل الولايات المتحدة الأمريكية (مثل “حياة السود مهمة”) التي ربطت دعم القضية الفلسطينية بالنضال ضد العنصرية في أمريكا، مما وسَّع قاعدة التضامن العالمي.
لقد أكد عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) في “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق”، أن الخروج من دائرة التبعية يتطلب:
1. تفكيك التبعية الاقتصادية عبر إعادة بناء الصناعات المحلية وتقليل الاعتماد على النفط.
2. بناء تحالفات جنوب–جنوب مع دول أمريكا اللاتينية وآسيا لإقامة شراكات اقتصادية وسياسية بعيدة عن الهيمنة الغربية.
3. إحياء مشروع التحرر القائم على الشرعية الدولية، عبر تفعيل قرارات الأمم المتحدة (كالقرار 194) الخاص بحق العودة ، ومحاكمة الكيان الصهيوني أمام المحكمة الجنائية الدولية.
وفي سياق ما ذكرناه أعلاه، نرى اليوم يقظة متصاعدة للشعوب ، وتأثيراً ملحوظاً في تعطيل آليات الهيمنة عبر التطبيع ، حيث تشهد الساحة الدولية تحولاً جوهرياً في دور الرأي العام، خاصة في الغرب، وأصبحت يقظة الشعوب والأمم عاملاً حاسماً في تقويض سياسات التطبيع القائمة على الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية. وتتجلى هذه اليقظة عبر آليات ضغط متعددة، تدعمها بيانات وأرقام دقيقة، مما يُضعف قدرة النخب الحاكمة على فرض أجنداتها. وفيما يلي تحليل موثَّق لهذه الآليات:
1. الضغط على صناع القرار السياسي وتغيير السياسات عبر الاحتجاجات والانتخابات.
على سبيل المثال:
أ. في فبراير 2023م، اضطرت الحكومة الألمانية إلى تأجيل تصويت برلماني حول صفقة أسلحة للكيان الصهيوني بقيمة 326 مليون يورو، بعد احتجاجات شعبية شارك فيها أكثر من 500 ألف شخص، وفقًا لتقارير منظمة أطباء العالم (Ärzte der Welt).
ب. في الولايات المتحدة، كشفت استطلاعات غالوب عام 2023م أن 55% من الديمقراطيين يعارضون تمويل المساعدات العسكرية غير المشروطة للكيان الصهيوني، مقارنة بـ38% فقط في 2018م، مما دفع أعضاء الكونغرس مثل إلهان عمر ورشيدة طليب إلى تقديم مشاريع قوانين لتعليق التمويل.
2. تعطيل الصناعات العسكرية بين المقاطعة والفضائح:
أ. في أكتوبر 2022م، أعلنت الشركة البريطانية BAE Systems عن خسائر تُقدَّر بـ1.2 مليار جنيه إسترليني بسبب إلغاء عقود مع كيان الاحتلال، بعد حملة “Stop Arming Israel” التي قادها ائتلاف من 240 منظمة حقوقية في أوروبا.
ب. كشفت وثائق مسرَّبة من بوينغ عام 2021م أن 34% من مبيعاتها العسكرية في الشرق الأوسط تعتمد على التطبيع، لكن تسريبات WikiLeaks عام 2023م أفقدتها 17% من أسهم السوق الأوروبية.
3. مقاطعة الشركات الداعمة للتطبيع:
أ. أظهرت بيانات Bloomberg (2023م) أن شركة AXA الفرنسية خسرت 4.3 مليار دولار من قيمتها السوقية بعد مقاطعة جماعية في 15 دولة عربية وإسلامية بسبب استثماراتها في المستوطنات.
ب. انخفضت أرباح Puma بنسبة 22% في الربع الأول من 2024م بعد حملة “Boycott Puma” التي انتشرت في 50 مدينة أوروبية، وفقًا لتقرير Financial Times.
4. دور النخب الثقافية والإعلامية في كسر الصمت التاريخي:
أ. في عام 2023م، وقَّع 2500 أكاديمي من جامعات هارفارد وأكسفورد على عريضة تدعو إلى مقاطعة المؤسسات الأكاديمية المتورطة في التطبيع، وفقاً لموقع The Guardian.
ب. الفنان روجر ووترز (مغني Pink Floyd) أطلق حملة (الثقافة ضد التطبيع) في عام 2022م، وحشد خلالها 1.7 مليون متابع على منصات التواصل، وفقاً لبيانات Social Blade.
وعليه، لم تعد الهيمنة عبر التطبيع سياسةً منيعةً بفضل الصحوة الشجاعة والمتصاعدة للشعوب، التي حوَّلت موازين القوى والأدوات الديمقراطية إلى سلاح فعَّال.
إن الأرقام والوقائع تُثبت أن الضغط الشعبي قادر على:
1. تقليص التمويل العسكري بنسب تصل إلى 30% (حسب معهد ستوكهولم لأبحاث السلام).
2. خفض الاستثمارات في كيانات التطبيع بمعدل 4.5% سنويًا (تقرير البنك الدولي عام 2024م).
3. تغيير الخطاب الإعلامي السائد، حيث ارتفعت تغطية انتقادات التطبيع في BBC وCNN بنسبة 40% منذ 2021م (دراسة MIT Media Lab).
إن هذه التحولات تؤكد أن مقاومة التطبيع لم تعد حكرًا على الجغرافية العربية، بل أصبحت حركة عالمية تُعيد تعريف مفهوم السيادة والعدالة والحقوق الإنسانية المثبتة في القوانين الدولية.
وأن التطبيع في ذاته الذي يحمل معنى الخذلان وإعطاء الظهر للشعوب، وللمفاهيم والمبادئ الإنسانية، ليس سوى الخيانة بعينها، وحلقة في سلسلة التبعية الإمبريالية، وأما البديل، فهو النهوض بالوعي والمقاومة الشعبية والعالمية، مقاومة الهيمنة والاحتلال على أرض الواقع هذا الذي نراه ونلمسه في ساحات مدن العالم المختلفة من فعاليات واحتجاجات ومواقف قلما شهدها التاريخ ، وظرورة التحام الشارع العربي معها واللحاق بها، أن المواطن العربي هو المتضرر ،المعني والمستهدف الأول من سياسة التطبيع الممنهجة، الأسير الذي يرزح مكبلًا وسط الطبخ الإعلامي الذكي المتنوع بكل ما يملك قنوات فضائية وغيرها، المدعوم بالمال الخليجي المُطبِّع، والمجهز بالتكنولوجيات الحديثة والسياسات الخبيثة الفعالة، وهذا هو الطريق الكفيل، والأمل الوحيد، لكسر هذه السلسلة.
كاتب من الأحواز