من القومية الشعاراتية الى القومية الديمقراطية: دعوة لإعادة التأسيس

من القومية الشعاراتية إلى القومية الديمقراطية: دعوة لإعادة التأسيس
أ. معتز فخرالدين
في حزيران/يونيو من عام 2011، نُشر هذا النص لأول مرة في “منتدى الحوار لتجديد الفكر القومي العربي”، وقد جاء حينها استجابةً لمرحلة حافلة بالتحوّلات، ومحاولةً لمساءلة المشروع القومي من الداخل.
أما اليوم، وبعد أكثر من عقدٍ من الزمن، وما حمله من انهيارات وطنية وصراعات كارثية، فإن الضرورة تستدعي إعادة طرح هذا النص بصيغته المطوّرة، لا بوصفه اجتراراً لماضٍ مضى، بل كمساهمة في استئناف التفكير الجادّ في مصير المشروع القومي العربي، وتحديات إعادة تأسيسه على أسس أكثر عمقاً وإنسانية وواقعية، في ظل المتغيّرات الإقليمية التي حدثت أو التي يُتوقّع حدوثها.
ليكن لدينا الجرأة، نحن المؤمنين بأن المشروع القومي لا يموت، على الاعتراف والتحدّي:
الاعتراف بأن فكرنا، رغم نُبله التاريخي، قد شابته شوائب كثيرة… أولها غياب الديمقراطية من قاموسه، وانعدام حقوق الإنسان في أدبياته، وتجاهل الدولة الوطنية الحديثة كمفهوم جامع وضروري للانتقال نحو الدولة القومية المنشودة.
لقد تغافلنا عن أن الحريات العامة ليست ترفاً بل ضرورة، وأن العدالة ليست خياراً أخلاقياً فحسب، بل شرطاً بنيوياً لبناء الأوطان، وأن كرامة الإنسان العربي، التي لطالما تغنّى بها خطابنا، لم تكن محفوظة لا في نظم القمع، ولا في نصوص الشعارات.
كيف أمكن لنا أن نطالب بالوحدة ونحن لم نُنجز المواطنة؟
كيف رُفع شعار “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة” بينما المواطن العربي نفسه مسحوق، وممنوع من طرح سؤال، أو نقد زعيم، أو مساءلة سلطة؟
لقد ارتبك فكرنا حين وضع الحرية في مواجهة الهوية، والديمقراطية في مواجهة السيادة، والتعدد في مواجهة الوحدة، فخسر الثلاثة معاً.
وها نحن اليوم، وبعد كل ما جرى، نرى بأم أعيننا كيف تشظّت الهويات الوطنية إلى هويات مذهبية، إثنية، قبلية، عشائرية، ما دون الدولة.
لم تعد الهزيمة سياسية فقط، بل وجودية: انهيار المجتمعات، تفكك العقد الاجتماعي، غياب المشروع، وارتداد الناس إلى كيانات أولية بدائية تتقاتل تحت عباءات الدين والمذهب والولاء الخارجي.
هل هذه هي “الأمة” التي كنا نحلم بها؟
وهل هذه “الوحدة” التي حلمت بها جماهير الستينات؟
لا يمكننا اليوم أن نغضّ الطرف عن واقعنا المتردّي.
المشروع القومي العربي، في صورته التقليدية، لم يعد قادراً على الاستمرار، إلا إذا أُعيد تأسيسه على أسس أكثر صدقاً مع الذات والعصر.
وإعادة التأسيس هذه تبدأ من الاعتراف العميق:
أن لا قومية بدون ديمقراطية،
ولا وحدة بدون حرية،
ولا تحرر من الخارج دون تحرر داخلي من القمع والاستبداد والفساد.
إن القومية الديمقراطية التي ننشدها ليست شعاراً جديدا لمشروع قديم، بل إعادة صياغة جذرية لمعنى الانتماء والهوية والمستقبل.
هي مشروع يؤمن بأن الإنسان هو البداية والغاية، وأن الوحدة الحقيقية لا تُبنى فوق الأنقاض، بل من داخل مجتمعات حرة، عادلة، متصالحة مع ذاتها، مدركة لتنوعها، متجذّرة في واقعها، ومنفتحة على روح العصر.
وربما يكون المدخل الحقيقي لإعادة التأسيس القومي هو العودة إلى المبادئ المؤسسة لأي مشروع نهضوي عربي جديد:
- إنسانية العروبة قبل أيديولوجيتها،
- المواطنة قبل العصبية،
- الحرية شرطًا للوحدة،
- والدولة الوطنية قاعدة لأي مشروع وحدوي مستقبلي.
إن التحديات التي نواجهها اليوم لا تُشبه ما واجهه الجيل المؤسس.
نحن لا نعيش فقط في زمن سقوط أنظمة، بل في زمن انكشاف نموذجٍ بأكمله.
والعدو لم يعد خارجياً فقط… بل صار جزءاً من خطابنا، حين يعيد إنتاج القهر والاستبداد باسم الوطنية أو القومية أو الدين.
والأخطر من كل ذلك، أن المشروع العربي يغيب تماماً من خرائط التوازنات الدولية والإقليمية، بينما تملأ الفراغ كل من:
- إيران المؤدلجة التي توظّف قضايا العرب في مشروع توسعي مذهبي، وقد نجحت – عبر أذرعها الطائفية – في تفكيك مجتمعاتنا من الداخل، لا باسم الاحتلال بل باسم المقاومة، فحوّلت شعارات التحرير إلى أدوات للهيمنة، وأسهمت في تمزيق النسيج الوطني، وتغذية الانقسامات الطائفية، وتقويض فكرة الدولة من أساسها.
- إسرائيل المتفوقة نووياً وعسكرياً، والتي تحوّلت إلى شرطي المنطقة،
- تركيا البراغماتية التي تنسج حضورها بصمت ودهاء،
- قوى الغرب التي لا ترى فينا سوى سوق واستثمارات وحدائق نفط.
فهل يجوز لنا أن نواصل اجترار الماضي، أم نمتلك الشجاعة لمواجهة الحقيقة؟
تساؤلات لا بد منها:
- أليس حريّاً بنا أن نعترف بأن الفكر القومي العربي، ما لم يتصالح مع الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان، سيتحوّل إلى غطاء للاستبداد؟
- أما آن الأوان لنكفّ عن العداء مع مفاهيم العصر، ونبني مشروعاً يجمع بين العروبة والكرامة والحرية؟
- أما آن للخطاب القومي أن يخرج من نخبويته ويدخل إلى هموم الناس ومطالبهم اليومية، لا أن يبقى أسير الخطابات الفوقية؟
لم تعد المسألة مسألة موقف سياسي أو تنظير فكري، بل خيار وجودي:
إما أن نُعيد تعريف المشروع القومي بوصفه مشروعاً تحررياً إنسانياً ديمقراطياً،
أو أن نتركه يسقط مع آخر نشرة أخبار عاجلة.
إن اللحظة التاريخية لا تنتظر منّا البكاء على الأطلال، بل الشجاعة في البناء من جديد.
لا خيار لنا سوى التأسيس لعروبة جديدة، تُصغي لصرخات الشعوب، وتُترجم أحلامهم في الحرية والعدالة إلى مشروع تحرّري إنساني يليق بأمة تستحق الحياة.
ولعلّ المهمة الملحّة اليوم هي في بناء كتلة تاريخية عربية جديدة، تنبع من عمق المعاناة، وتتشكل من كل من لا يزال يؤمن بأن العروبة لا تُختزل في خطاب ولا نظام، بل تُولد من جديد حين تلتقي إرادة الحرية والكرامة والعدالة في مشروع يتجاوز الانقسام، ويُعيد للإنسان مكانته في صميم الفكرة القومية.
فالزمن لا يرحم المترددين،
والتاريخ لا ينتظر الشعارات الفارغة،
ولا الطبيعة تقبل الفراغ.