مقالات كل العرب

أهلا بكم في الديسكو

شارك

أهلا بكم في الديسكو

أ. عيسى قراقع

انا في الديسكو، صخب وموسيقى عالية وحادة، أصوات مزعجة متداخلة باللغة العبرية، تدوي في داخل رأسي، سكاكين صوتية لا تهدأ، يختلط الهواء مع الانفاس، الرقصات مع الاشباح التي تدور حولي، اتمايل واتموج، هناك من يسحبني للأعماق ثم يقذفني للأعلى، هناك من يدق عقلي، أرتطم بنفسي، جسدي يترنح، يتعرق، يتفسخ، أذوي جسما ودماغا واحساسا، هناك من يضربني ويجلدني في داخلي، ينتزع ذاتي ويعريها فوق الحصى والرمل.
اهلا بكم في الديسكو، الحفلة على وشك البدء، بهذه العبارة يرحب الجلادون الصهاينة بالأسرى الفلسطينيون في معتقل سدي تيمان السري والدموي والذي يقع بالقرب من بئر السبع، والذي أنشئ في قاعدة عسكرية خلال الحرب الابادية على قطاع غزة، والديسكو هو غرفة تعذيب او حظيرة تعذيب كما يطلق عليه الاسرى، توضع فيها سماعات كبيرة وضخمة تصدر أصواتا وضجيجا عنيفا تقتحم أعماق الانسان حتى يفقد الاتزان ويتحول الى انقاض.
لا زلت في غرفة الديسكو، موسيقى التعذيب تجعلني ارقص الما، والعازفون يرقصون طربا، أرقص حتى الموت او الاغماء، ارقص مع نفسي وخيالي وهلوساتي، ارقص ثم ارقص حتى اتحول الى كتلة بشرية تحبو وتنبح، الدماء تنزف من الاذنين، الدماء تنزف من العينين، عارٍ ومقيد من اليدين والقدمين، وكلما ازداد القصف الجوي على قطاع غزة وانفجرت القنابل فوق رؤوس الناس ومنازلهم، ازدادت موسيقى الديسكو وانفجرت كالصواريخ ومزقتني الى أشلاء.
تحول ملهى الديسكو وهو احد فنون اميركا المتوحشة الى أداة لتعذيب الضحايا الفلسطينيين، فاذا كان هناك للرفاهية فهو هنا للتسبب بالألم والايذاء، هناك للمتعة والتجلي، وهنا لتقويض إنسانية الانسان، اهلا بالديسكو الأمريكي، ديسكو السكارى والمثليين الجنسيين والمتحولين والمخنثين، ثقافة إرهاب الديسكو والقطيع، ثقافة الإبادة وارسال كل أنواع الأسلحة الفتاكة وأدوات القمع الداعمة لإسرائيل في حربها الوحشية على قطاع غزة، تحويل النغم الى قنبلة، والايقاع الى وسيلة تعذيب، العدوان على الجمال والخيال والحرية وروح الانسان، وكما وصف ميكافيللي الحرب بأنها الفن الأسمى لتحقيق الهيمنة.
ديسكو التعذيب مستمد من رقصة الموت الذي ساد في العصور الوسطى للقوى الظلامية المستبدة والتي اصيبت بهوس الموت خلال وباء الموت الاسود في منتصف القرن الرابع عشر، والدمار الذي خلفته حرب المائة عام بين فرنسا وانجلترا، واصبح جزء من ثقافة الغرب في تصاويرهم وفنونهم البصرية وخيالاتهم، وفيها يظهر هيكل الموت المصحوب بالموسيقى وهو يفاجئ ضحاياه.
اهلا بكم في الديسكو، وعليك ان تدخل الحظيرة والقفص، ان تغتسل بصابون الديسكو، ان تستسلم لماكينة الاستحواذ والسيطرة جسدا وفكرا وادراكا حتى الانصياع، وعليك ان تنظف رأسك واحلامك الوطنية والقومية، وتتجوف حتى تصبح فراغا بلا تاريخ وهوية وذاكرة.
اهلا بكم في الديسكو، اهلا بكم في الجنون الصهيوني، في معتقلات وسجون الاحتلال، لم تتوقف الاسطوانات في بث اصواتها الشيطانية، لم تتوقف الحرب على غزة، الموسيقى كالرصاص، ألسنة الجحيم تتدلى، والموسيقى الصاخبة يعزف على أوتارها كل اركان دولة الاحتلال، الوزراء والمخابرات والجيش والقضاة، وفي الديسكو أنت لا تنام، تبقى صاحيا حتى ينشف فيك ماء الصراخ، ويجف عظمك وينكمش لحمك في قبر لا تراه.
الديسكو أيديولوجيا التعذيب الصهيوني والتطهير البشري والثقافي في منظومة القمع الممنهجة بحق الأسرى الفلسطينيين، تعذيب غير مرئي ومستمر خارج حدود وقواعد القانون الدولي والمعايير الأخلاقية الإنسانية، استئصال البشر من ادميتهم وارادتهم وكرامتهم وتذويبهم في موسيقى العنف حتى التلاشي.
‏ لم تتحدث اتفاقية مناهضة التعذيب العالمية، ولا اتفاقيات جنيف الأربعة عن ديسكو التعذيب، الذي لا يترك أثرا على الجسد ولكنه يترك دمارا أشد قسوة من الإعدام، فما لا تراه في التعذيب هو الأخطر من التعذيب.
‏أين أنت الآن؟ لا تدري، أنت في معتقل سدي تيمان في غرفة تعذيب اسمها الديسكو، جسمك يتفتت، والجنود يصفقون، وكلما انهارت قواك صفقوا أكثر، وكلما ابيدت عائلة في غزة ومسح منزلها عن وجه الأرض صفقوا وانتشوا وأرسلوا الفيديوهات والصور، يضحكون ويسخرون أمام جسدك المعذب، يقرأون من التوراة نصوصا ويصلون ويرفسون، و يدورون حولك كما يدورون حول الذبيحة، انها موسيقى توراتية سماوية إلهية مقدسة، وقد اعلنوا باسم اله الحرب يوم قيامتك، ويوم موتك، ويوم يصبح قبرك خواء يطفح بالدم والسعال والغثيان.
انا في غرفة الديسكو، لا ادري ان كنت تحت الارض في قبر ام فوق الارض في عاصفة، هذا سجن ام قذارة وحاوية، البراز والجرب والضلوع المحطمة، جثث تدخل وجثث تخرج، ولا ادري ان كنت حيا ام ميتا، انا في الدنيا ام في الاخرة، لم أر شمسا ولا نهارا، رأيت ابن غفير يحمل الأقفال والعصي والمسدس، يقف على بوابة جهنم ويطلق الرصاص على الرؤوس والنجوم والسماء والالهة.
‏أهلا بكم في الديسكو، أنت في المحطة الاخيرة من مراحل التعذيب، محطة اضمحلال الجسد نفسيا وجسديا، سلخ الجلد و و تشويه الابدان، انها دراما مثيرة دراما التدمير، الحفلة الأروع للمحققين الساديين، السفالة والرذيلة والغواية، التهيج المشبع بالجريمة، محطة الموت الداخلي للإنسان وليس الموت الخارجي، محطة الاختناق والقهر والتآكل وانهيار الأعصاب، محطة الهلوسة، الهيستيريا وفقدان الشعور بأنك في يوم كنت إنسان.
‏وكان عليك أن تمر في كل الحظائر قبل أن تصل إلى حظيرة ديسكو التعذيب، حظيرة الضرب والتكسير والإذلال، حظيرة التجويع والتعطيش، حظيرة الحفاظات والبامبرز، حظيرة الاغتصاب والاعتداءات الجنسية، حظيرة الكلاب البوليسية المدربة على الاغتصاب الجنسي، حظيرة شد القيود والدعس وبتر الأطراف، حظيرة الزحف وتقليد اصوات الحيوانات، حظيرة التعفن وانتشار الأمراض والديدان، حظيرة الصعق بالكهرباء، حظيرة التعرية والإنبساط والتسلية، حظيرة الأناشيد العبرية وسب القيادات الوطنية، وفي كل هذه المراحل المحققون العباقرة يضربون جسدك بالهروات وبالبنادق والبساطير، يرفسون ويركلون ويشتمون حتى تتحول إلى كتل و أكداس من اللحم المعطوب.
‏أهلا بكم في الديسكو، طنين مستمر في الأذنين، زنانة أخرى فوقك، ويبدأ القصف، تشتعل النار، فكل اسير صار هو غزة، البيوت ترقص وتهتز وتنهار، الاجساد تتطاير في كل مكان ، جسدك ساحة حرب، جسدك مستباح بكل اشكال الشناعة والوساخة، جسدك مطحنة كما هي غزة.
‏أهلا بكم في الديسكو، وقد بدأت الحفلة والطقوس والشذوذ والانتقام، البهجة والانحطاط الأخلاقي والقيمي والإنساني، ما أروع هذه الحفلة، ما أروع نظريات التعذيب التي ابتكرها الكيان الصهيوني، التعذيب بالأصوات المرعبة، التعذيب بالهز، التعذيب بانحناء الظهر كالموزة، الشبح والقرفصة، الحرمان من النوم، التسخين والتبريد، البصق واللطم، التعليق، التهديد وغيرها، ما أروع هذا الإبداع الأمريكي الصهيوني، تعذيب الديسكو الذي لا يريد انتزاع اعترافات أو معلومات، وإنما للقتل والمتعة والفرجة، وهدم كيان الإنسان الفلسطيني وهويته الوطنية، وتحويله الى مجرد وعاء بشري بلا قيمة.
‏ديسكو التعذيب في معتقل سدي تيمان، ربما يكون هو ملهى الاغراء والأغواء الذي تحدث عنه الاسير الشهيد وليد دقه، عندما يصبح التعذيب أداة لصهر الوعي والعقل والروح والإرادة، وينتشر الديسكو من السجن الأصغر إلى السجن الأكبر، فنراه على الحواجز العسكرية، في الإغلاقات المستمرة، و نراه في الاقتحامات الليلية والمداهمات، ونراه في الإعدامات الميدانية، و نراه في تجريف الشوارع وهدم بيوت المخيمات، وفي هذا الديسكو الصهيوني يجتمع السجن والابادة، ترقص تل أبيب فرحا في ما يسمى عيد استقلالها فوق نكبتنا وجثثنا، ولا نرى سوى مزيد من الأضواء اللامعة، الغارات والعمليات العسكرية، الطبول والمستوطنات، والمتفجرات والطائرات والسحجات و الرعشات والرجفات والنيران وشبكات المعسكرات المتعددة.
‏الديسكو في جنين وطولكرم ونابلس والخليل ورام الله، وقد بدأ الديسكو منذ أن دخلنا القفص، الديسكو مصيدة، الانبساط والعناق والتلوث والفساد والبلاهة والسلطنة، التطبيع العجيب بين القاتل والضحية، الرقص في النار الموقدة.
انا في الديسكو، في هذا البرزخ، مسافة طلق ناري بين شعار الدولة او الدولتين على ارض لم تعد مشتركة، انا غائب، لا أرقص إلا على رجل واحدة، انا المتجمد المتبلد مكتوم النفس والكتابة، هل سأعود الى امي عائشة؟ واخبرها عن عالم آخر ليس فيه مخيم ولا طابون ولا دبكة شعبية، هناك شيء أخذوه مني يا أمي، قولي الى متى أعود الى اولي واسترد روحي مرة ثانية.
افرج عن صديقي من غرفة الديسكو في سجن سدي تيمان، كانت عيونه غائرة ونظراته مليئة بالاسئلة المتيبسة، ولكنه كان يبتسم، وفي كلماته نوافذ لا تطل على المذابح والمجزرة، وقف امام قضاة المحكمة الجنائية في لاهاي، لم يشتك لهم، ولكني سمعته يردد ما قاله المناضل الاممي يوليوس فوتشيك ذات يوم، وهو على مقصلة الاعدام وكأنه يقرأ بيانا او وصية “سيأتي وقت يكون فيه هذا الحاضر ذكرى، وسيتحدث الناس عن عصر عظيم وعن ابطال مجهولين صنعوا التاريخ”.
اهلا بكم في الديسكو.
اهلا بكم في دولة الخمج والاسلاك الشائكة.
الخروج من التاريخ واللغة.
صداع الجغرافيا والمفاصل والوقت.
طغيان يرفرف تحت الاقدام.
لكن ما بال هذا الموت
يتحول من خراب الى عاصفة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى