كل الثقافة

حين بكت “أم الخريط” بعيون الغائبين

قصة قصيرة

شارك

حين بكت “أم الخرّيط” بعيون الغائبين
(قصة قصيرة)

أ. سيد كاظم القريشي

كانت البردية “أم الخرّيط” آخر شهقة للهور المحتضر، واقفة كعجوزٍ شاخت في الانتظار، تحدّق في الأفق الذي غادره الراحل دون عودة. تحيط بها جذوع “الغَرَب” اليابسة، لا ظلّ لها إلا نسائم تمشّط أوراقها الذابلة، وتهمس في أذنيها بحكايات من رحلوا؛ صيادون انقرضوا، طيورٌ هاجرت، وأسماكٌ لفظت أنفاسها، وقبائل عبيد الماء انسحبت إلى الغياب، والمياه الفوّارة التي كانت تلمع كالفضة، تحوّلت إلى مستنقعات مالحة آسنة.

حلّق غرابٌ عجوز، وهبط على جذعٍ قريب، نظر إليها بعينين متهدّجتين، وقال:

ــ ما بالكِ صامتة؟ كنتِ تغنين مع الريح في الأيام الخوالي.

أجابته بصوتٍ مخنوق يشبه صوت ورقة مبلّلة بالملح:

ــ كيف أغنّي والماء صار مرًّا؟ لم يبقَ أحد. الطيور تهبط على كتفي كالغرباء، ترتجف، تبحث عن لقمة غائبة، ثم تمضي قبل أن تموت جوعًا. أما الأسماك… فكم من مرّة سمعتُ أنينها تحت الماء، تدور في دوائر ضيّقة، تبحث عن هواءٍ نقي، ثم تطفو، عيونها مفتوحة على آخر وهمٍ في هذا الهور.

سكتت لحظةً، ثم همست لنفسها:

ــ يا هور… لا تمُتْ، ما دام في القصب دمع، وفي الطين حلم.

لكن القصة لم تنتهِ هنا…

في عمق الهور، حيث ما زال القصب يهمس، كان “مرزوق الدشر” يسير بصمت. آخر راعٍ للجواميس، وآخر من يؤمن بأن الهور لا يموت، بل يختبئ ليعود في وقتٍ آخر.

كان يخوض كلّ يوم بين “الگواهن”، يحدث نفسه، أو شيئًا لا يراه سواه، عن “أيام الحمى” حين كانت المياه عذبة، والأرض غضّة. في صغره، كانت أمّه تمسك بيده نحو قلب الهور، حيث القصب الأخضر، وتقول:

ــ لا تخف، الهور لا يخذل أبناءه.

حين يخفت الضجيج، يسمع “مرزوق” همسات بين القصب. يقولون إنها الريح، لكنه يعرف الحقيقة. ذات ليلة، وهو يراقب جواميسه، رأى وجهًا ينعكس على سطح الماء. ظلّ طويل، ملامحه ضبابية، لم يرتعب، بل قال بهدوء:

ــ أعلم أنك هنا… لا تتركني وحدي.

ردّ الماء بهمسةٍ خفيفة:

ــ الهور… لا ينسى.

ولم يخبر أحدًا، لا عن ذاك الوجه، ولا عن تلك المرأة التي كانت تطلّ من الطين، شعرها معقود بألياف خضراء، تحمل في يديها ضوءًا أخضر، وتغنّي بلغةٍ لا تُفهم، إلا أن القصب كان يرقص معها.

عندما تختفي، ينبت مكانها نبتٌ جديد، ينمو ببطء في الماء المالح. إنها “خضرة أمّ الليف”.

أما “الطنطل”، فقد كان يضحك، مطمئنًا. الكلّ يظنّه أسطورة، لكن “مرزوق” رآه. عيناه تلمعان كالندى، لا يؤذي، بل يراقب، يختفي حين يقترب الغرباء، ويظهر حين لا يبقى سوى “مرزوق” والجواميس.

وفي حلمٍ ثقيل، رأى “مرزوق” امرأة مبلّلة بالطين، قالت له:

ــ إذا احترق القصب، لا تدع النار تأكلك… صِر ماءً أو عشبًا، لكن لا تكن رمادًا.

في الصباح التالي، اختفى “مرزوق”. لم يره أحد.

وفي المساء، هبّت الريح من جهة الهور، تهمس:

ــ من لا يحمي الأرض… تصبح الأرض منه خالية.

ثم ساد صمتٌ ثقيل، لم يقطعه سوى نعيق غرابٍ وحيد، يحوم فوق المكان الذي اعتاد “مرزوق” أن يقف فيه.

وقبل أن تيبس آخر ورقة من “أم الخرّيط”، هطل المطر.

وظهر “عبيد الماء” فجأة، كأنهم انبثقوا من باطن الأرض. أجسادهم شفافة، مغطّاة بالطين والماء، حركاتهم بطيئة، وعيونهم فارغة. وقفوا كمن يشهد ولادةً كونية. ولمّا غربت الشمس، عادوا إلى أعماق الهور، تاركين خلفهم آثار أقدامٍ تغوص في الملوحة.

لم يتغيّر شيء. الماء ظلّ مالحًا، والقصب متكسّرًا… لكن “الطنطل”، من بعيد، ابتسم.

وفي الليلة التالية، غمر ضوء القمر سطح الماء كوشاحٍ من زجاج. سمع شيوخ “الصراخية” غناءً خافتًا، لا يشبه همس الريح، ولا نعيق الغربان.

قال “أبو فرهود” وهو يحدّق في العتمة:

ــ إنها “أم الخرّيط”… تغنّي من جديد.

لم يصدّقه أحد.

لكن في الصباح، تغيّر لون الماء عند أطراف الهور. صار نقيًّا، يلمع بلون الضوء. وفي المكان الذي اختفى فيه “مرزوق”، نبتت بردية طويلة، فريدة، أوراقها خضراء بشكلٍ ساطع، وعلى أحد أغصانها كوفية مبلّلة، تهتز مع النسيم، كأنها تلوّح لزائرٍ بعيد.

ومنذ تلك الليلة، لم يعد الهور كما كان.

عادت الطيور، واحدةً تلو الأخرى، دون خوف.
وفي صباحٍ نديّ، وجد أطفال “الصراخية” آثار خطواتٍ فوق سطح الماء… لا تشبه أقدام البشر. نصفها طين، ونصفها عشب.

قال أحد العجائز:

ــ من يذوب في أرضه، لا يموت… بل يعود في هيئة أخرى.

وحده “الطنطل”، على الضفة البعيدة، كان واقفًا.
عيناه تتلألآن، وابتسامته ثابتة… كأنه يعرف أن شيئًا بدأ، لا انتهى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى