الرئيسيةكل الثقافة

محمود درويش… أنا ابن النيل

شارك

مصر أول بلد عربي يراه الشاعر العربي الفلسطيني الكبير محمود درويش، وأقام بها عامين كاملين هما 1972و1973، وكان نبأ وصوله إلى القاهرة مفاجأة مدوية فى كل العواصم العربية، لقد احتضنت مصر كما تفعل دوما محمود درويش شاعرا وإنسانا ومثقفا ورمزا لا يستهان به كما لقي الترحيب والتقدير من كافة مثقفي ونقاد مصر وقتها.
قصة محمود درويش مع مصر من المهم التوقف أمامها… والكتابة عنها، لأنها تقدم الكثير من الدلالات لدور مصر الحضاري في الوطن العربي، والأمة الإسلامية، والعالم أجمع.

  • يكشف سيرته: أشرف سيد

ولع محمود درويش بمصر يرجع لأن عبد الناصر فى المقام الأولى عروبى تبنى مسألة العروبة والقضية الفلسطينية، وهو أمر يمكن إدراكه أيضا فى القصيدة التى نشرها فى ديوانه (حبيبتي تنهض من موتها عام 1970) بعنوان ( الرجل ذو الظل الأخضر) وأهداها إلى ذكرى جمال عبد الناصر بعد وفاته.
فعند مجيء محمود درويش دعمته الدولة المصرية حيث تشير الكاتبة الصحفية والأديبة صافى ناز كاظم (شاهد عيان) على حياة محمود درويش فى تلك الفترة، إلى أن الكاتبة منى أنيس قالت لها إن ترتيبات حضوره لمصر استغرقت نحو عام ونصف العام قبل موت عبد الناصر الذى أفسد غيابة كل شيء جرى التخطيط له، لكن درويش فهم أيضا أنه شخص مرحب به فى مصر، ولا داعى لتأجيل خطته بالمجيء إليها، هكذا فهم من السفير مراد غالب سفير مصر فى موسكو وقتها.
وبحكم اقترابها من الأستاذ أحمد بهاء الدين رئيس مجلس إدارة دار الهلال، والذي احتضنه فلم يكن وجوده فيها نتيجة عقد عمل لكن كان وفق صيغة خلقها الأستاذ بهاء، حيث وضع درويش فى إطار خاص ولم يكن هذا الإطار بعيدا عما أرادته الدولة التى لم تعتن مثلا بشاعر آخر زار مصر قبل زيارة درويش بفترة وجيزة وهو الشاعر العراقي مظفر النواب.
وحين اتخذ الشاعر قراره بالمجيء لمصر أراد أن يمضى فى المغامرة للنهاية واختار ألا يموت حلمه فى الخروج من فلسطين المحتلة فقد آمن بأنه سفير فلسطين للعالم فى تلك الأيام.

فقد بدا واضحا جدا أن الإعلام المصري جند نفسه فى جيش الدفاع عن درويش وقراره، فقد أعادت مجلة روز اليوسف فى عددها الصادر 15 من مارس 1971 مقالا كانت قد نشرته صحيفة الاتحاد التى تصدر فى حيفا تحت عنوان (محمود درويش لم يرحل) ورجح الكاتب رجاء النقاش فى كتابه أن كاتب المقال هو إميل حبيبي الذي كان بمثابة الأب الروحي لدرويش حتى خروجه من إسرائيل، أيضا نشر الشاعر أحمد عبد المعطى حجازي مقالا نشرته مجلة روز اليوسف بتاريخ 22 من فبراير وجاء فيه( أنت تعلم يا صديقي أن كل العيون الآن مفتوحة عليك، عيون شعبك العربي فى كل أقطاره وعيون رفاقك فى الأرض المحتلة وعيون أعدائك أيضا، وأنت تعلم أيضا أن الناس الذين طعنوا بما فيه الكفاية وخدعوا بما فيه الكفاية، يحق لهم أن يشفقوا عليك وعلى أنفسهم من المصير الذى ينتهي إليه فى العادة نضال اللاجئين السياسيين، وهو أن يقبعوا فى ركن مقهى، بل لقد وجهت إليك أسئلة وملاحظات توحي بهذه الشفقة، وربما قرأت فى بعض صحف عواصم عربية أخرى تعليقات تصرح بها.

ففي شهر فبراير 1971من عام جاء محمود درويش للقاهرة ، وكان محمود درويش قد سافر إلى الاتحاد السوفيتي بمنحة لدراسة العلوم الاجتماعية ، وهناك التقى عبد الملك خليل مدير مكتب جريدة الأهرام في الاتحاد السوفيتي وأبدى محمود درويش رغبته لعبد الملك خليل في زيارة مصر، وجاء لمصر بهدف أن يبقى فيها وكان قد قضى عاما كاملا في موسكو، ثم جاء إلى القاهرة التي كانت على أبواب تغيير كبير ما بين تجربة عبد الناصر والسادات، واتجه إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون ليعقد مؤتمرا صحفيا يوم 11 من فبراير سنة 1971 بحضور محمد فايق وزير الإعلام، والذي بثه التليفزيون العربي وإذاعة صوت العرب إلى العالم، وبعدها بأيام يتم تعيينه بإذاعة صوت العرب، وفى أول أكتوبر عام 1971 التحق محمود درويش بجريدة الأهرام للعمل بإدارة التحرير بمكأفاة 140 جنيها، ولا يمكن فهم انتقاله من صوت العرب إلى الأهرام إلا على ضوء التحول الكبير الذي مر به النظام السياسي عقب أحداث 15 من مايو 1971 والتى أسماها الرئيس أنور السادات(ثورة التصحيح).

وقال الأديب يوسف القعيد في مقاله عن الشاعر شعبان يوسف الذي قال إن محمود درويش كان قد أفضى إليه بقوله: “أريد أن أعلن منذ البداية أنني أعتبر مسألة وجودي في القاهرة الآن، مسألة شخصية أتحمل وحدي مسؤولية اختيارها، وسأبذل منتهى جهدي للحيلولة دون تحويلها إلى موضوع للمناقشة والأخذ والرد، وكان من الممكن، وربما من الأفضل حصر المسألة في حدود ضيقة، لولا الظروف التي خلقتني والقضية التي قدمتني للناس، قد ربطت اسمي بقضية عامة”.

ثم يشرح مسوغات خروجه: “لقد أصبحت مشلول الحركة تماما، وأصبحت مجبرا على التعلق على مطاط الصيغ الدبلوماسية الإسرائيلية، لكي أنجو من القانون، إنني لا أشكو ولكنني أحاول القول إن شعرة معـــاوية بيني وبين القانون الإسرائيلي قد انقطعت، وإن طاقتي على الاحتمال والتجاوز قد نفدت، خصوصا أنني لم أعد منتميا إلى شعب يطلب الرحمة ويتسول الصدقات، ولكني أنتمي إلى شعب يقاتل”.
وقال عن مصر: “ويسعدني أني اخترت القـــاهرة لأنها القاعدة الأساسية لكفاح الشعوب العربية، من أجل التحرر والاستقلال والتقدم الاجتماعي والمستقبل الاشتراكي والسلام”.

وأعتقد أن درويش اختار مصر لأن رجاء النقاش كان قد نشر مقالا له فى مجلة المصور بتاريخ 22 من ديسمبر 1967بعنوان (مطلوب محاولة عالمية لإنقاذ هذا الشاعر) أما مقاله الثاني فقد جاء بعد أسبوع واحد من نشر الأول وعنوانه ( لماذا لا تتحدث الدوائر الأدبية والفنية فى العالم عن الشاعر المسجون فى إسرائيل؟ مطلوب من المجلس الأعلى للفنون ترجمة دواوين الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى اللغات الأجنبية) ومن ثم عرف درويش أن انطلاقه يبدأ من القاهرة.

وألف عنه كتابه المهم: «محمود درويش شاعر الثورة الفلسطينية»، وصدر في كتاب الهلال، وكان الكتاب نفسه، قد نشر على شكل فصول في مجلة المصور، ربما كان الكتاب الأول، الذي يصدر عن محمود درويش، ولأنه خرج من مصر، فقد وزع أكثر من ديوان شعري لمحمود درويش.

وكان غسان كنفاني قد كتب المقال النبوءة، الذي تنبأ فيه بمستقبل محمود درويش الشعري، «المصور الصادر صباح 2 من مايو 1967، وكان عنوان المقال: «محمود سليم درويش، شاعر المقاومة الفلسطينية»، وكانت المرة الأولى وربما الأخيرة التي يكــتب فيها اسم محـــمود درويش ثلاثيا لأنه مع شهرته الكاسحة أصبح محمود درويش فقط، وفي عدد 19 من يناير 1968 نشرت المصور على صفحة كاملة قصيدة لدرويش حملت عنوان قصيدة جديدة من شعر المقاومة.
والمدهش أن مجلة الكواكب نشرت فى 27 من أغسطس 1968 قصائد جديدة لمحمود درويش بعنوان (جرح فلسطيني).

وفور انتهاء المؤتمر الصحفي لاستقبال محمود درويش أعلن الوزير محمد فايق وزير الإعلام اعتزاز مصر ومسئوليها ومثقفيها بالشاعر الكبير وباختيار القاهرة مقرا لإقامته وقاعدة لنضاله.
وفي مايو 1968 أصدرت مجــلة الهلال عددا خاصا عن فلسطين – كان رئيس تحريرها في ذلك الوقت هو كامل زهيري، ورئيس مجلس الإدارة هو أحمد بهاء الدين – وفي هذا العدد نشر كامل زهيري ديوانا كاملاً لمحمود درويش – الديوان 55 صفحة من العدد البالغ صفحاته 180 – وكان صلاح عبد الصبور قد كتب مقاله الشهير عن محمود درويش، ونشر أيضا في مصر، بالتحديد في عدد المصور الصادر في 24 من مايو سنة 1968. وعنوانه (القديس المقاتل).

وقد ظهر اسم محمود درويش فى أول مقال كتبه لمجلة المصور من القاهرة بعنوان( هل تسمحون لي بالزواج؟)، وقبلها بثلاثة أسابيع نشرت المجلة أول قصيدة يكتبها من القاهرة، وفى عدد مارس كتب فى الهلال مقاله الشهير (لماذا خرجت من إسرائيل؟) وفى ذكرى 15 من مايو نكبة فلسطين نشرت المصور قصيدته (المزامير) ، وفى تلك الأيام كانت الصحف تهتم بأخبار درويش وتضعها فى الصفحة الأخيرة بين أخبار النجوم.

وفى حوار لجريدة الحياة بين محمود درويش والشاعر عبده وازن تم نشره عام 2007 قال درويش: “أعتبر سفري إلى القاهرة من أهم الأحداث فى حياتي الشخصية ففى القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها، ولم يكن هذا القرار سهلا، كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودى، أفتح الشباك وعندما أرى النيل أتأكد بأنني فى القاهرة، خامرتنى وهواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني فى مدينة عربية أسماء شوارعها عربية والناس فيها يتكلمون العربية، وأكثر من ذلك وجدت نفسى أسكن النصوص الأدبية التى كنت أقرأها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية والأدب المصري، التقيت هؤلاء الكتاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدهم من آبائى الروحيين.

ومن سوء حظى أنني لم ألتق طه حسين، كان فى وسعى أن ألتقي به ولم يحصل اللقاء..، كذلك أم كلثوم لم ألتقي بها، وحسرتي الكبرى أننى لم ألتق هذه المطربة الكبيرة وكنت أقول إننى ما دمت فى القاهرة فلدى متسع من الوقت لألتقي مثل هذه الشخصيات محمد عبد الوهاب عبد الحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم.

وعندما عينني محمد حسنين هيكل رئيس مجلس إدارة جريدة الأهرام ورئيس تحريرها مشكورا فى نادي كتاب الأهرام براتب وقدره 140 جنيها ويعتبر مبلغا كبيرا فى ذلك الوقت، تسنى لى أن التقى كبار الكتاب والمفكرين فى مصر، إذ كان مكتبي بالطابق السادس الذى كان فيه مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ، وكان توفيق الحكيم فى مكتب فردى ونحن البقية فى مكتب واحد، أيضا من الشعراء الذين صادقتهم وأحبهم صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وأحمد حجازي والأبنودى”.

هكذا ظلت مصر ساكنه في وجدان الشاعر محمود درويش الذي أفاض من عاطفته تجاهها بإشعار لازالت خالدة تفسح عن مدى تعلقة بمصر شعبا وتاريخيا وثقافة فمثلا نراه يقول في قصيدة يبرز فيها معانته فى الترحل بين الأقطار العربية حتى استقر مقامة فى مصر.
للنيل عادات
وإني راحل
أمشى سريعا فى بلاد تسرق الأسماء منى
قد جئت من حلب وإني لا أعود إلى العراق
سقط الشمال فللأ ألاقى
غير هذا الدرب يسبينى إلى نفسي.. ومصر
ونراه يخاطب مصر كأنها ماثلة إمامة بقوله يا مصر، هل يصل اعتذراى
عندما تتكدسين على الزمان الصعب أصعب منه؟
خطوي فكرتي
دمى غبارى
هل تتركين النهر مفتوحا لمن يأتي
ويهبط من مراكبه إلى فخذين من عاج وعرش
هل يكون العرش قبل الماء؟
لا أدرى، ولكن.. ربما.. هيهات.. قد..
لا يصعدون السلم الحجري والأهرام كالحلزون
يغتصبون، يغتصبون..
أعرف أنني أمتص فيك الغزو
أعرف أنني لا أعرف السر الدفين
وأنني صفر اليدين وسائر الأعضاء
أعرف أنني سأمر فى لمح الوطن
وأذوب فى الغزوات والغزوات
لكن كلما حاولت أن أبكى بعينيك
التفت إلى عدوى
فالتصقت بما تبقى منك أو منى، وأدركني الزمن..
هل تتركين النيل مفتوحا
لأرمى جثتي فى النيل؟
لا لن يستبيح الكاهن الوثتى زوجاتي
ولا، لن أبنى الأهرام ثانية، ولا
لن أنسج الأعلام من هذا الكفن
من يفتدينى، يا معذبتي، بمن؟
ولمن؟
تمضين حافية لجمع القطن من هذا الصعيد
وتسكتين لكي يضيع الفرق بين الطين والفلاح
في الريف البعيد
وتجف فى دمك البلابل والذرة
ويطول فيك الزائل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى